يتقدّم الشاعر بهجت الحديثي في مجموعته " تراتيل في محراب الوطن " على خُطى البيان والبديع الموصولين بروح الشعرية العربية التاريخية القادمة أساساً من القافية والتفعيلة، بما يسمح بروي يتداعى مع الغنائية، ويُحلق في فضاء الإيقاع الخليلي دونما إغفال تام للتفعيلة المجردة في بعض النصوص. هذه التجربة تعيد إلى الأذهان سؤال الغنائية وضوابطها الموسيقية، فيما تنفسح على جدل خلاق يتعلق بماهية الشعر وأبعاده والمسافات الفاصلة بين الشعرية المجردة والمعنى المقصود .. تلك التي تحيلنا مباشرة إلى جدل العلاقة بين الثنائية التقليدية للشكل والمضمون بوصفهما وجهين لعملة واحدة. في هذه التنويعات نتوقف أمام سؤال الوجدان المهجوس بالأرض والإنسان، والمُتّصل بالعوالم الداخلية للشاعر، كما نتوقف أمام جُملة من العناوين ذات الصلة بهذا السؤال الكبير، وسنرى أن النصوص الماثلة تُماهي بين الغنائية الواضحة والأنساق النظمية المجبولة على الروي والقافية، وسنرى أيضاً قدراً من التداعي الواضح في المعنى خارج فلسفة الفراغ المهجوسة بالفجوات التي تصل وتفصل بين النثر والشعر مما يميز تجربة ما بعد التفعيلة والقافية في النثر الفني العربي المعاصر وتجربة شعراء الحداثة، مما اتسعت له مقاربات علمي الجمال والنقد الأدبي . في هذه الوامضة المسافرة مع الخليل بن أحمد الفراهيدي وموسيقاه التوقيعية الواضحة نتجوّل مع بيان الشعر العربي التاريخي المتصادم دوماً مع تيارات الحداثة الشعرية التواقة إلى تجاوز الجاهز والمموسق توقيعاً ظاهراً.. تلك المركوزة دوماً في عوالم الخيال المجرد، والخوارزميات اللفظية الباحثة عن اتصالات غير لفظية. في حالتي ما نقرأه عند الشاعر المقيم في شعرية الأصل، أو ما يقترحه شعراء الحداثة لا مفر من الإقرار بأن الشعرية المجردة ليست قائمة على الشكل الصرف، ولا المضمون البوّاح، بل على ما يتجاوزهما إلى ما يمكن تسميته بتمازج العناصر الدلالية والشكلانية ذات الأبعاد اللا متناهية . آية ذلك إن توقيع الكلام يتصل أولاً بالحرف، ثم بالكلمة، فالكلام لا يتنظم مزاجاً واعتباطاً، بل من خلال تناوب شرطي وجبري بين الحركة والسكون .. الأمر الذي يحدو بنا إلى البحث عن الغنائية في تضاعيف الكلمة الواحدة، قبل الوصول إلى الجملة، ومن الجملة قبل الوصول إلى الصدر والعجز في إطار البيت الشعري العربي العتيد.. أحسب أن ما سنقرأه في المجموعة الماثلة سيفتح لنا مجالاً واسعاً للتقرّي مما نتركه لواسع نظر القارئ وحسن فطنته حتى لا نستبق في إصدار أحكام قيمة استنسابية متسارعة.