يُكثر البعض من نشر العُطاس حول أنفه، ويُكثر آخرون من النظر إلى ساعة يده، ويُكثر الكثير من الناس حشد الرأي العام حوله سلباً وإيجاباً بما يكفي غرور نفسه، وقد نكثر جميعاً عمداً من إقصاء العناية بالذات وتدليل النفس ونتعمد تحميلها ما لاتطيق وكأنها معالجات قابلة للفرمتة، لكن مهما أكثر الاسكافي من التأمل في أحذية المارّين هنا وهناك، وأكثر طبيب الأسنان من تأمل ابتسامات الناس بدقة فلايمكن أن ينتعل الأول أكثر من زوج من الأحذية ولايملك الثاني إلا صفين من الأسنان الحساسة .. وكما يُحشر اليمانيون غُبراً عند ظهيرة كل يوم إلى أسواق القات وكما يعبر دخان السجائر عبر أفواه الكادحين إلى صدورهم في مشهدٍ مزر.. يثير رعاف النفوس بغير مشرط، وكما نتأوه من الحزن أحياناً ونحن في قمة السعادة هكذا ستنتهي كل الحكايا المريرة كما بدأت من قبل وانتهت لكن القليل منّا من يحاول إدراك حركة الكون على شعرة قلبه التي لاتنقطع.. أو يُصغي لاهتزازات الأرض على أوتاره الظامئة للمعرفة. لاتحوي بيوتنا شرفة جميلة ومقعداً مريحاً وطاولة منسقة وفنجان قهوة لذيذ.. لاتحوي شرفاتنا بعض الأزهار ونباتات الظل الجميلة وعطرية الشام القانية.. شرفاتنا زقاق ضيق يجمع أغطية المشروبات وزجاجات العصير وبعض أوراق الجهنميات المتساقطة.. متى إذاً سنقرأ كتاباً وأين؟! على فراشٍ قبيح يذكرنا بالموت كلما استلقينا عليه لننام أمام التلفاز حيث يختلط الدم باللُعابِ في عالم يموت كل يوم.. في غرفة الضيوف حيث يتكئ الجميع لمضغ أوراق القات والهلوسة بأخبار العالم وعضلات القادة وجمال النساء و .... والعودة من حيث البدء.. أين نقرأ جريدة الصباح ونحن نبتسم كالأطفال ببراءة ومكر لذيذين كمكعبات السكر.. أين نمارس هواياتنا المجنونة المليئة بالألوان والأصباغ وأكوام الفحم والرماد..؟!! متى نقف تحت زخات المطر الباردة وتلك السحاب ظامئة من الماء.. متى سنبني بيوتاً من الرمل ونجثو على الركبتين امتناناً لأيدينا بإنجاز جميل.. متى نغزل شالاً بألوان قزح يلف اعناقنا العارية حتى ننام.. متى سنصبح أجمل؟! أروع..؟! أرقى؟!! متى يكون لأحرفنا ألق من النور نمضي خلفه إلى حيث أراد القدر.. متى تثمر بناتُ أفكارنا وتزدان أظافرنا بأوراق الشجر ونشعر أننا سنابل تغني مواويل الخصوبة والبهجة والمرح.. إلى متى نتحول من أحرار إلى سجناء داخل أرواحنا؟.. أما آن للهجرة أوان، أما أصبح الرحيل وشيكاً.. أما عاد لنا وطن صغير بين منقاري طير كناري جميل..؟! يالمواويل الرحمة كم تغسل هذا القحط،!! يالعزة السماء كم أحيت فينا هذا الجدب!! متى تحين ساعة انشطار الروح عن هذه الأجساد بعنفوان رجال المعارك ورقة نسائهن ؟ متى يجتمع تراب ظهر الأرض بباطنها ويذوب عظام الكبرياء عند اللحود؟!. فمهما أطلنا النظر في ساعاتنا.. مهما انتزعنا من أعين الآخرين وجوهنا الواجمة.. مهما تطرفنا في الحب أو في البغض.. مهما تداوينا بالموت لايأتي الموت متى نشاء مهما طعمنا هنيئاً وشربنا مريئاً وعشنا منيعاً ونمنا قريراً سنجوع ونعطش ونخاف ونسهدْ.. مهما اعتلينا بروجاً وطرنا مروجاً سنبقى نسير على اثنتين، اثنتين فقط أيها الباحثون عن الذي لايأتي ولايلقاه البشر مثلكم أنا ابحثُ عن شيء لا أجده، لايلقاني ليس على وجه الأرض شيء لاتلقاه بين يديك لاُيمضغ كالطعام ولايُرشفُ كالماء ولايُشهقُ ولايُزفر هو من غذاء الروح وقوام الحنان ورائحة التوبة وطعم الصدق هو فيَّ وفيك وفيها، ولكنه نطفة غير مخصبة بالحياة، بطيء يسير مثل الهلام، فمتى يأتي يوم نغذيه على شرفة تحوي مقعداً وجريدة نغذيه ونحنُ نمدُ سوقنا نتأمل وجه السماء بحب، نعدُ نجوم الليل.. ونسير مع سحاب النهار نقدم وجوهنا لحبات المطر على طبق من الفضول ونلعقُ البرد بين يدي الذهول.. نعم ليس بإمكاننا صنع رجل الثلج.. أو صنع باقات جميلة من الزهر أو ارتداء الجينز والتسكع بدلال على مروج من الثلج وأعشاب الشتاء الجميل.. نعم لن نستطيع تسلق الجبال وارتياد حدائق الأسماك ومتاحف الزمن الجميل، ولن يكون هناك مناطيد لكن هنا نحن.. أهلنا.. أرضنا التي ننام عليها آمنين.. مآذننا التي تنادي للصلاة.. قبابُ المظفر والقاهرة.. نكهة الأتراك عند باب موسى والباب الكبير.. افواه الرجال والنساء الخضراء بعد الظهيرة.. نعم لا شرفة ولا متكأ لكن.. هوية .. وطن.. بعض الكرامة.. شيء من العظمة.. أتدرون ما أعشق من نكهات تلك النكهة التي يمتزج بها «البُنُّ والبسباس والوزف» على جنبات الشنيني سوق العتاقة .. والأصالة .. والجمال..