لايستطيع الإنسان أن يعيش حياته كخط مستقيم بالرغم من أن فلسفة الحياة الحق تقتضي ذلك، لكن ولأن الإنسان يعيش ضمن محيط ديناميكي متغير باضطراد حتى ينتهي أجله فإن الزوايا الحادة في حياته تبقى محتملة الحدوث.. بل وقد يكون بعضها ذا أثر رجعي على حياته في الدنيا قبل الآخرة.. أضف إلى ذلك دوائر الفكر والروح والجسد تلك الدوائر المغلقة التي يجب أن يكون لها مركز قوي وإلا تغير انتماء الإنسان وتبدّدت عقيدته واهتزت أركان شخصيته السوية، إذ أن معتقدات المرء لايجب أن تتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه وكذلك انتماؤه فهما مصدر لغذائه الروحي الذي يبقيه سوياً ومتوازياً وقادراً على التفاعل والعطاء. وبالعودة إلى خط السير المستقيم الذي يضع عليه الإنسان قدميه منذ أن يولد وحتى يتوفاه الموت فإن هناك مجموعة من الثوابت ومجموعة من المتغيرات التي تحف هذا الطريق وتحدد للإنسان كثيراً من نقاط التقائه بكل شيء من حوله .. طبيعة.. بشراً.. كوناً.. خالقاً.. وعالماً آخر لا نعلمه نحن البشر.. وفي كل نقطة تقاطع بين المرء ورمز من رموز الكون هذه فإن للإنسان رسالة يجب أن يؤديها .. فهو مطالب بالتأمل في هذه الطبيعة ليغذي عقله وروحه بقدرة خالقه على الإبداع واعطاء النفس حقها في ترتيب أولوياتها وواجباتها.. مطالب بإعمار هذه الأرض من حوله لأن كل أثر طيب يتركه هو عنوان له. إعمار الأرض ليس بالمساجد أو الآبار أو الدور فقط.. الكلمة الطيبة والسُّنة الحسنة هما إعمار أيضاً.. ومع سواه من البشر يقع المرء في نقطة التقاء قوية خلال خط سيره في هذه الحياة.. هو راعٍ ولديه رعية وكفى بالمرء إثماً أن يضّيع من يعول.. هذه النقطة تحديداً تحتاج إلى مهارات ديناميكية ناجحة ومرنة لأن علاقات البشر مع بعضهم البعض مرهونة بمتغيرات حسية ومعنوية غاية في الدقة والإبداع، ولهذا كانت الاخلاق من أعلى مراتب القيم ولأجل تمامها بُعث محمد ّ(لى الله عليه وسلم).. وفي علاقته مع الكون ربما يصبح المرء أكثر دقة ورصانة لأن الكون صورة عظيمة من صور الاقتدار اللامتناهٍ وهو الدرس الأول والأصعب، في مدرسة النظام والطاعة والتسخير.. وأمام هذا الكون العظيم يكتشف الإنسان ضالته حجماً وعبودية لله .. فأيهما أكبر مثلاً الإنسان أم الشمس؟! ومع هذا تشرق هي بالنور حتى قيام الساعة بمنتهى الدقة والنظام بينما هي تفور وتتفجر.. ولايزال الإنسان يعصي ربه كلما أشرقت شمس أو غربت.. أما فيما يتعلق بنقطة الالتقاء مع الخالق فهي النطقة اللولبية والأكبر حجماً وشمولية وهي في الحقيقة محيطة بأكمله، إذ إن أمر العبودية لايقتضي العبادة فقط والاعتراف والتوحيد.. بل هو التسليم الكامل والذوبان المتناهي في اقدار الله خاصة الموت الذي لايأتي إلا بغتة حين تكتمل أسباب الحياة. وهناك فرق كبير بين أن يتأمل الإنسان فيما حوله لمجرد التأمل والتفكير فقط أو أن يسقط صفات ماحوله على واقع حياته وأسلوب معيشته فيتعلم النظام من هذا الكون الرحب.. والجمال الخلاق من الطبيعة الساحرة.. والتوكل من مخلوقات الله على الأرض.. والسمو من نجوم السماء والعطاء من تراب الأرض والخير من سنابل الحقول والصبر من السفن التي تتهادى على الموج والقوة من الجبال.. كون بأكمله يربي الإنسان إذا جعل الإنسان من نفسه تلميذاً على مقاعد التأمل والتدبر.. لايولد الإنسان خالياً من الجمال واستشعار كل جميل حوله بل إن الإنسان نفسه كتلة من الجمال والإبداع الإلهي وهذا ما لايدركه الإنسان.. ولو أنه أدرك ذلك لما أفسد الكثير من جسده وهو يأكل ويشرب ويفعل ماحرمه عليه الله خاصة تلك المضغة التي بصلاحها يصلح كل الجسد والعكس من ذلك صحيح. وتلك السلسلة من العلاقات المتشابكة بين الإنسان وكل ماحوله وبينها وبين الحياة هي سلسلة طويلة جداً تحمل من الخفايا الكثير والكثير ..وكما أن الله تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض ليصلح أمر معيشتهم على هذه البسيطة فظواهر الكون ورموزه ومخلوقاته الأخرى أيضاً تدفع بعضها بعضاً فالريح مثلاً مسخّرة لتسيير السحاب وتلقيح النبات.. والموج مسخّر ليجري بالفلك.. والأرض مسخّرة للإنبات وهكذا.. النحل يجمع العسل والفراشات تنقل اللقاح والطيور الصغيرة تنظف اجساد الحيوانات الكبيرة من الحشرات المزعجة.. عالم مسخَّر لدفع بعضه بعضاً.. وكذا الإنسان بإفلاسه يغتني آخرون .. وبموته يستقيم أمر العصاة من حوله.. ومن مرضه يتعلم الكثيرون معنى الصحة.. تفاعل وديناميكية محطات قد مضت وأخرى تنتظر على الطريق.. الطريق الذي وإن بدا لنا مستقيماً إلا أنه يحمل منحنيات كثيرة بعضها نراها والبعض الآخر تختص بها اقدارنا المكتوبة على لوح الأيام.. إن الحياة التي يعيشها الإنسان هي عمر محدود به هو، فالإنسان يعيش عمره فقط ولا يعيش الحياة بكاملها.. وهذه الفكرة الجزئية تنطبق على نواحٍ كثيرة تخص الإنسان فهو لايحتاج لكل مايجمعه من المال.. لايرتدي مايقتنيه من الثياب.. لايقرأ كل مايشتريه من الكتب.. لكنه الإنسان.. ذلك المخلوق الذي يجمع كل شيء ليفقده.. ويشتري كل شيء ليبيعه .. الإنسان الذي لاتتعدى رحلة حياته لحظة في عمر الزمن.. يثور.. ويتجمد.. يشهق.. ويزفر.. يصبح مطاطاً ليحيط العالم بذراعيه .. ثم يعود صخراً لايتحرك.. ذلك الإنسان الذي عاش في جنة الله يأكل مما يشاء فأبى إلا أن يطعم الشجرة ,ثم هبط إلى الأرض ليأكل مما يكدح لأجله.. غريب أمر هذه القلوب .. عجيب أمر تلك العقول.. تسقط من قمة إلى قاع .. ثم تعرج من قاع إلى قمة لكن كأرواح خارج نطاق الأجساد وخلف حدود الأضداد. رحلة حياة مهما حاولنا أن نعيشها باستقامة متناهية لابد أن تنحني مسافات الأيام لتتمرغ إرادتنا.. ويعتصرنا الخوف.. ونذوق الألم.. نفرح.. نضحك.. لكننا لاندري .. لاندري.. أبداً متى يصبح كل هذا مجرد أثر.