كثيراً ما حلم الصحفيون والكُتاب والأدباء في هذا الوطن أن يكون لهم منبر يستجاب دعاؤه، ويؤخذ بعين الاعتبار هجاء حروفه، يسمع (طنين) أهله و(حنين) منتسبيه، يكون لهم مكان بين الكدم والهمبرجر. رقعة جغرافية صغيرة بين الواقع والخيال.. الواقع المر الذي يحتسونه بصمت والخيال الآسر الذي يصنع من أحلامهم سدوداً منيعة يحطمون جباههم عليها وهم يركضون بسرعة إلى قلوب الناس .. يمتعون هذا بقصيدة وذلك بقصة .. يرسمون الابتسامة على وجوه البشر في لوحة بديعة أو رسمة كاريكاتورية عبقرية تجعلنا نحبس أنفاسنا ونحن نحلق طويلاً في عالم لذيذ من بديع ما يُكتب ويُرسم.. يُقفّى ويُنثر .. لا يعرف هؤلاء طعم الراحة وهم يبنون بيوتاً من حروف الكلام .. بيوتاً لا تهدمها الجنازير ولا تقذف نوافذها بالحجارة.. رجال ونساء يبحثون معاً على صعيد واحد عن قيمة الفرد.. تلك القيمة التي لن تكتفي بصرف الورق والحبر بدل غذاء فكري حال الذي يصرف لهم البر والسمن والسكر كغذاء جسدي لأن قيمة الفرد لا تزن ما يأكل الناس وما يشربون .. إنها قيمة فكر وعطاء روح، ليست عملة يتداولها البشر. ولا يمكن تقديرها بعبارات ناصعة على رأس كل محفل ولأننا بحاجة ماسة للشعور بالاستقرار فإننا لا نمل من التذكير بالدور الجليل الذي تقوم به الصحافة، تلك التي لو لم تكن ناطقة باسم البشر لما سميت بصاحبة الجلالة، ولما كان كل عمود فيها صاحب سمو رفيع إذا تحدث باسم الناس ومعاناتهم.. وأخلص العهد في كتم السر العظيم الذي يمنعنا من البوح به أنه ليس سراً! ولا يعرف الكثير من الناس أن الصحافة مرآة المجتمع وإنها لسانه الناطق وأنها ترمومتر الأحداث التي نعيشها كل يوم، انها حصيلة جهود مضنية خلف الكواليس يقدمها رجال ونساء يسعون حثيثاً لتصل تلك الوريقات عبر محطاتها المتعددة إليكم أنتم أيها السادة. وليس الصحفي الحق بذلك الشخص الذي يزن كلماته بالمال لأن لغة العقل كما أسلفت لا تقدر بثمن، إنما يتحتم على الذين حملوا مشعل الصحافة بحثاً عن الحرية الفكرية ووصولاً إلى مقام المقال السامي والمضمون الصلب واعتناق الحقيقة كأساس بل ومبدأ عقائدي ألا يستسلموا لهشاشة الأحداث وجريانها سريعاً داخل اخدود الزمن العبقري الفذ.. بل من واجبهم أن يتتبعوا الحقيقة خطوة خطوة حتى يصلوا إلى ذروة سنام العطاء المهني ألا وهو الاخلاص والتفاني في خدمة القضية الرئيسية التي أصبحت تنضح خارج الإناء وما أكثر المتلقفين للشهب!! خاصة عندما تلوح في الأفق إرهاصات بعض القضايا التي تحتمل التقديم والتأخير، الشد والجذب وغير قادرة على الحسم فيما يخص وجودها على السطح وحين تكون القضايا هشة لا تقوى على النهوض بمفرداتها والتجلي طويلاً في سماء القرار الصرف الذي أحدثها أو كان أحد أسباب حدوثها فإنها عند ذلك تحتاج لمن يجيد طرحها كمادة حقيقية يجب أن يتلمسها الجميع.. وهنا يأتي دور الصحافة التي تطرح على الساحة الكثير من القضايا الهامة ولكي تكون الأحداث مشبعة بالصدق تتدخل قوى الصحافة بأشكالها المتعددة لتجعل من مدن العالم كتاباً بين أيدينا نقرؤه على حين غفلةٍ من إدراكنا بأهمية الصحافة كمهنة اجتماعية راقية تحمل ديناميكية عظيمة وقدرة على التغيير اعظم، بالإضافة إلى أنها توفر طبقياً شريحة مناهضة للجهل بالمستقبل ومن ثم فهي قادرة على إحداث نوع من (البيريسترويكا) التي تعني لغوياً إعادة البناء واصطلاحياً القضاء الحازم على عمليات الركود وخلق أولية مضمونة وفاعلة لتسريع التطور الاقتصادي الاجتماعي ومنحه قدراً أكبر من الديناميكية.. وبالرغم من كون هذا المصطلح روسياً إلا أننا بحاجة إليه فعلاً من أجل إحداث التغيير في أنفسنا ومجتمعنا إلى الأفضل، وهذه ليست دعوة للتشيع بل هو مبدأ إسلامي قبل أن يكون روسياً. وحين يقول القرآن الكريم [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] صدق الله العظيم "الرعد آية 11" فهذا دليل كاف لإثبات أن التغيير لازم الحدوث داخلياً في أنفسنا وخارجياً على صفحة المجتمع الذي نحن أفراده، وفي اعتقادي أن هذا المبدأ يجب أن تتنباه الصحافة، فلا نكتفي بإحداث الفوضى اللفظية التي تغشى صفحات المنشورات المختلفة أو نتطاول لإحداث زعزعة مقصودة بين صفوف الناس، إنما قصدت بالتغيير ذلك الذي يهدف بشكل أساسي إلى ايصال الناس إلى عقلية ثقافية قادرة على إدارة الحدث والتفاعل معه. وفي اعتقادي أن هذا الدور ينبغي أن يصبح واجباً على الصحافة أن تلعبه في ظل هذا الهدر اللفظي والتموج اللوني والتمييع القصصي الذي تتبناه بعض تلك المنشورات التي لم تتضح بعد هويتها الوطنية، وليس عيباً أن نبدأ من جديد بل من العيب جداً أن نستمر في إهدار الحبر والورق دون جدوى من كل مانفعل، إنما أصبح مفروضاً أن نغربل عطاءنا الصحفي لخدمة الأهداف الوطنية السامية بحثاً عن عالم آمن فكرياً واجتماعياً وأمنياً، ومن لا يدرك خطر أمراض الفكر ليس حرياً به أن يكون من الركب، فالقافلة ليست بحاجة إلى من يعطل انطلاقها ويثبط من عزيمتها بل هي بحاجة إلى من يتآزر مع أولئك الذين يحرسون ثغر الوطن ويذودون عنه ويدفعون ارواحهم ثمناً لننعم بالأمن والاستقرار. ليتنا نقسم من اليوم فصاعداً بين يدي أقلامنا داخل اقفاص ارواحنا ألا نكتب للناس إلا ما يعزز من انتمائهم للوطن ويوحد جهودهم لخدمة التنمية والديمقراطية والأمن والاستقرار وجعل حقائق الحياة مشاعل تنير درب آخرين أو على الأقل حتى تصبح الرؤية كافية بما يمنحهم فرصة الهروب من الظلام.