الصحافة مهنة الحقيقة وينبغي أن لا تكون إلا كذلك ولو لم يكن هذا الشرط لصيقاً بها فينبغي زوال المشروط مادة وعيناً لأنه سيكون باباً للتدليس والتلفيق وليس منبراً للحق والصدق، الحقيقة لسان الصحافة الناطق بمصداقية المهنة والذي يضع الناس أمام الحدث المتكامل من جميع جوانبه، والمتحيز في هذه المهنة لجهة أو فئة معينة يجب أن يضع قلمه جانباً ويوفر كمية الحبر والورق التي يستهلكها دون جدوى تذكر لأنه سيسخر طاقاته لخدمة تيارات قد لا تخدم القراء ولا تقدم الفائدة للمجتمع خاصة حين تغشى المجتمع موجة أحداث تحتاج إلى وقفة صدق صارمة لا تسمح بنقل الحدث إلى مربع الافتتان وسريان مفعول الدم في عروق القضية وظهور أعراض قاتلة قد تودي بحياة الحس الصحفي الذي يراه الناس مصدراً من مصادر عرض معاناة الشارع التي تتجاهلها حكومات محلية وإقليمية ودولية لها أغراضها الدنيئة التي تصب في آبار المصالح الشخصية الرخيصة، الحقيقة تموت أحياناً تحت أسنة الأقلام كما كان يموت الناس تحت أسنة الرماح في حروب الماضي، وليس من المعقول أن تصبح أوراقنا الطاهرة ساحات لإعدام مفردات الحقيقة ونحن نرفع شعار الحرية الفكرية والتاريخ يصنعه الجميع والعدالة الإنسانية مطلب شعبي، الصحافة ليست ملفاً سياسياً سرياً، وليست وثيقة دبلوماسية خاصة، وليست مقعداً سلطوياً شاغراً، كما أنها ليست أداة قمع جاهزة باستمرار أو وسيلة متعثرة لإسقاط نظام معين الصحافة سلطة ناطقة باسم الحق لكنها ليست محكمة لإصدار أحكام الموت والحياة على أحد، هي المساحة الجغرافية الورقية الوحيدة التي لا تعرض الملوك والحكام والشعوب إلا على طبيعتهم، هي مهنة راقية لا تبحث عن مناصب وليس لها مخصصات وظيفية مغرية فهل سمعتم قبل اليوم عن صحفي يحصل على سيارة أو فيلا أو رتبة حكومية معتبرة؟!! إنها مهنة تعطي أكثر مما تأخذ بل إنها في أغلب الأحيان تعطي ولا تأخذ ! أنا أعتبرها نوعاً من أنواع الجهاد لأنها تفرض علينا المصداقية الخالصة فيما نقدمه للناس سواءً كنا في حالة حرب أم سلم، وفي حالة الحرب يصبح الأمر أخطر بكثير حيث يصبح الصحفيون في الميدان تتابع عدساتهم مشاهد الظلم والبطش والعنف واللاإنسانية التي ترتكبها أطراف معينة ضد أطراف أخرى في صراع الحق والباطل الذي لا يخلو منه أي مجتمع مادامت الأطماع الإنسانية قائمة ولفرط إخلاصهم في عملهم يصبحون هدفاً سهلاً لمن ليس من مصلحته أن تظهر الحقيقة كما هي وكما يتمنى الناس ان يروها حتى يستطيعوا ان يختاروا الطريق الذي يحرر عقولهم من سطوة الجهل بأحداث الحياة ومنعطفاتها الخطرة التي ترسم مصائر الشعوب والأوطان. الصحافة قلم الناس الذي يعبر عن مشاعرهم النائمة والثائرة بنفس القوة كما يعبر العنف عن مشاعر الحكام وأصحاب القرار والساسة وأولي البصائر العمياء حين تظهر الحقيقة ويسقط في في أيديهم فيفقدون لسان الحق ليتشبثوا بسيف الباطل. وهنا يأتي دور الصحافة مرئية كانت أم مسموعة أم مقروءة لأنها السلطة الخامسة التي لا تدنس ملفاتها السياسات الخارجة عن حدود الإنسانية والتي لا تؤمن بالحرية الفكرية ولا تقدس لغة المنطق ولا تخشى أن يلطخ ثيابها دم الأبرياء. الصحافة لسان حال الناس من جميع مستوياتهم التي تعيش أدنى العروش لكنها تدب على سطح الأرض بقوة لأنها لا تحمل أوزار القوم على ظهورها كما تحملها الأنظمة والحكومات التي لم تقرأ في كتاب السماء عن يوم الحساب، الصحافة هي سلطة الشارع، أعمدتها مبنية من رؤى الناس وتطلعهم للسلام، حواشيها متخمة بمشاعر الحب للوطن بكل أطيافه وفئاته لأنهم في النهاية من البشر.. لهم قلوب يستشعرون بها، رؤوس أقلامها صلوات في محاريب الرحمة والعفو والتوبة، هكذا ينبغي أن تكون الصحافة لأنها مادة نابضة بأفراح الناس وأحزانهم بل وأحلامهم في الحصول على بطاقة عبور إلى مجتمع حضاري آمن وفاعل وقادر على إثراء تاريخه بمواقف بطولية مشرفة.. الصحافة بيت الباحثين عن الحقيقة يجمعنا خلف جدرانه بحب لأننا جميعاً نحمل صفة الشك في الواقع ولذلك يدفعنا فضولنا للبحث عن ماهية الخبر لتبدد الحقيقة شكوكنا وتثبت صحة ظنوننا وهنا فقط نشعر بسعادة لا تساويها ملايين العالم لأننا دحضنا الباطل وواريناه الثرى، قلم الصحافة سيف عدل، وكلماتها أسفار حب غير محرفة لكل ماهو جديد وجميل وحقيقي لا تشوبه نقائص التزييف والغش والتحريف.. إنها عشقنا الذي لا يمكن أن يفتر في يوم من الأيام، هي فن الواقع الذي لا تحده حدود ولا تقف في طريقه مصالح من أي نوع كانت، كلماتنا تحمل حرارة الرصاص وكاميراتنا كلاشنكوف ذو ذاكرة ملونة بألوان الواقع المترف بالديناميكية والتغيير.. كلنا ممن يمتهن هذه المهنة الراقية لا نملك إلا تصوير الحدث كماهو سواءً بأقلامنا أو بعدسات كاميرات زملائنا ممن يجدون في الميدان مايجده أصحاب الحدث وصانعوه وربما وجدنا أكثر لأننا استطعنا ان نعري أصنام الظلم والهمجية من ثياب السياسة التمييزية والعنصرية التي صورت الشعوب كفئران تجارب قذرة.. الصحفيون طابور الحقيقة المحايدة التي لا تشوبها خيانة الطابور الخامس أو عنجهية الطابور الأول !