الصحافة تلك العين الواعية لما يحدث في المحيط.. ومايجري في الجوار.. إنها تلك الأقلام والكاميرات الناطقة بالموضوعية.. الباحثة عن الحقيقة.. الداعية إلى التناول الإيجابي لمتغيرات الأمور.. العادة التي أدمنتها الشعوب جهراً عقوداً من الزمن.. من منا لايدمن قراءة الصحف وهو يرتشف قهوة الصباح الساخنة.. إنها لغة التواصل الموسومة بالصراحة لأنها تضع الحقيقة على مائدة المجتمع كل صباح.. الصحافة دعوة لحضور احتفال الفكر بحرية الرأي.. والبحث في ذاكرة التاريخ عن قيمة العقل.. ثمن المبادئ.. مآل أخير لجيش كبير من أخبار المجتمع بكل مافيه.. والسياسة بكل زواياها الغامضة.. وإبداعات البشر الخلاقة وكل مايهم البشر داخل مجتمعاتهم.. إنها الوسيلة الآمنة بل الأكثر أماناً لمنع إجحاف البشر بالجهل.. جهل بالمتغيرات الثابتة والطارئة التي تشهدها المجتمعات.. إقرار وتقرير تقدمه مؤسسات ماوجدت إلا لتكون شاهداً حياً على نجاح ثورة الإنسان ضد التجهيل الذي عاشته مجتمعات سابقة ماكانت تعيش إلا كقطعان الماشية التائهة.. ولهذا سميت مهنة المتاعب.. وهي حقاً كذلك.. لأن أصحاب هذه المهنة لايجيدون قذف«الأحذية» فقط في وجه الظلم.. بل يستطيعون تغيير مسار مجتمعات بأكملها.. لأنهم يستخدمون الحقيقة كأداة.. الكلمة كوسيلة.. التطور كهدف للتغيير. إن هذه المهنة التي لايتوقف أصحابها عن ممارستها حتى خلف مكاتبهم.. من أقدر المهن اجتماعياً.. هي الصفحة التي ترسم ملامحنا وعميق إحساسنا بالحياة في سطور وصور قد يراها البعض جامدة.. لكن الصحفي وحده يراها نابضة راقصة، أنغامها حروفه البهية التي يختارها بيضاء كألق الصباح الوليد.. دينياً هي جهاد الكلمة حين يصبح القلم سيفاً والصورة معركة متحركة مؤطرة بنضال طويل سبقنا به كثيرون صوروا الحياة كل يوم في صحيفة ناطقة باسم الواقع.. وسياسياً تجد الصحافة بندقية تحمي معاقل الكلمة.. تحدد انتماءها، تدمغها بالصدق، لاتنصب للعدالة مشنقة.. ولاتحكم على حرية البشر بالإعدام.. لاتنصت لنعيق الباطل على أغصان الصمت.. لأنها تشهر سلاح اللامبالاة في وجه الزخم الجم الذي تصنعه أحداث الحياة.. إنها المهنة التي تهز أقلامنا كخاصرةٍ راقصة تهتز كلما مر على مسامعها نغم.. المهنة التي جعلتنا نستخدم أعيننا كاميرات متحركة لاتترك زقاقاً إلا وجعلت منه صورة مؤطرة بالديناميكية في زمن أصبح زقاق الحارات مسرحاً للجرائم والإبداعات الإنسانية حين أصبحت زحمة المدن ضباباً في سماء الحضارة وأصبحت الصحافة راية بيضاء لايمكن تلطيخها.. وفي مهنة كهذه المهنة شوارعها.. وبشرها.. زقاقها.. وبيوتها.. أحداثها.. وسكونها هي مادتنا.. واهتمامنا.. هي أوراقنا.. ومكاتبنا.. في مهنةٍ كهذه لايجوز لمن يعيشها وتعيشه أن يكتب سوى الحقيقة.. أو يصور غير الواقع.. أو يفكر بغير الاتجاه.. لأنها مهنة الحقيقة الكاملة.. المهنة التي لاتجّمل وجه الشيطان لتجعله ملاكاً.. ولاتصبغ الأسود ليصبح أبيض.. ولاتلبس هيكل الباطل ثياب النفاق حتى يصبح حقاً.. لهذا تشعر بالألم حين تجد من يحاول أن يدنس شرف هذه المهنة كما دنّست مهن كثيرة من قبل وتشعر بالألم اكثر عندما تصبح هذه المهنة تهمة.. ربما يستخدمها البعض سلاحاً ذا حدين.. لكن الكثير من الأسلحة لاتقتل إلا صاحبها.. لاتودي إلا بحياة العابثين بها.. لاتضر إلا من يحاول أن يجعلها سماً يحتسيه الآخرون.. والمشكلة عندما يكون الآخرون من الأبرياء الذين لايجيدون صنع الشباك حولهم.. أو الذين تمرغوا خلف القضبان كثيراً حتى أصبحوا لايستطيعون استشفاف الواقع.. أو قراءة تعابير الأيام القادمة.. إن من الشرف بل من المروءة أن نعطي هذه المهنة حقها في الشفافية والخصوصية الإعلامية لأنها الوسيلة الوحيدة من وسائل الإعلام التي تنقل الواقع الاجتماعي.. تتحدث باسم الناس. تصور حياتهم بشكل يومي لتربط أطراف الحياة الإنسانية بعضها ببعض.. ومن العدل أن يكون جزاء الإحسان إحساناً.. بل إنني أرى أنه من الإجحاف أن تعامل هذه المهنة أداةً لإغلاق منافذ النجاة الأخيرة.. في عالمٍ متقلبٍ.. وأحداث متواترة .. وظلام يغطي الأفق.. الصحافة مهنة بيضاء.. معالمها واضحة.. طريقها تحفه أخطار كامنة لكنها تظهر الحقيقة أكثر من أن تخفيها .. حتى دخان ضبابها القاتم يجعل الصورة أوضح.. والفكرة أعمق.. والإيمان بها أقوى.. ومن هنا نستطيع أن نصدر أحكامنا العادلة حول مايحدث في مجتمعنا أو سواه من المجتمعات.. هذه المهنة علمتنا أن نستخدم أقلامنا وأوراقنا وأفكارنا العائمة في بحر عقولنا وأرواحنا المعلقة بين أضلاعنا.. نستخدمها كلها أدواتٍ لصنع رؤية جديدة تمنحنا طاقة خلاقة للإبداع في مجال الصحافة.. هذه المهنة التي جعلت العالم ورقة ملونة ضمن كتاب الحياة الكبير.. المهنة التي علمتنا احترام أفكارنا وأقلامنا وأضافت إلى رصيدنا الشيء الكثير.. والرائع الذي تمتاز به هذه المهنة.. جاذبيتها التي تعيدنا إلى مضمارها مهما ابتعدنا عنها.. إنا مهنة تستحق أن تحترم.. وليست تهمة تتوارى الوجوه من تبعيتها حياءً..