ليس من السهل أن يجد الإنسان نفسه عبداً مملوكاً لجهة أو حزب أو هيئة أو حركة أو حتى شخص واحد يسيّره وفق رغبة خارجة عن إرادته ومؤطرة بقناعات الآخرين, وكل ذلك مقابل إجراء تسوية رخيصة بين كفتي الحق والباطل. أجد نفسي اليوم أمام عوائق فكرية غريبة من أشخاص كنا نراهم كباراً بحجم أحلامنا وطموحاتنا وإذا بهم اليوم ينكمشون أمام أعيننا ويتضاءلون كما تضاءلت صدماتنا بواقعنا بعد أن عقدنا العزم على أن تكون أقلامنا نزيهة ولا تصب في كأس أي حزب بل للوطن ومن أجله، للحق وفيه، للحقيقة ومنها, وسنستمر في ذلك إلى أن تشاء قدرة السماء .. نحن معشر الكتاب أصحاب رسالة مسطرة بالقيم والمبادئ الصرفة التي لا تشوبها مداخل السياسة ومخارجها ولا تعكرها أهداف ومشاريع مدعومة قد تستطيع فعل الكثير في مجتمعنا لكنها لا تستطيع أن تغير من قناعاتنا تجاه ما نريد وما نبحث عنه. لقد كتبت مراراً عن الكُتّاب وأنهم نوعية خاصة من البشر لأنهم يرون الحياة بألوان الطيف ومن زوايا مختلفة عن تلك التي يألفها الناس وبعين الفحص والتدقيق والتحليل, مضافاً إلى كل ما سبق لغة تصويرية بديعة تطلعك على مسار الحقيقة من منظور جميل منسق لا يقل روعة عن روعة أنفسهم الخلاقة التي تبتكر النصوص العميقة والمفردات الساحرة والمشاهد الآخاذة والحوار الروحي البريء دون أن يحصلوا على براءة اختراع أو حتى شهادة تميز أو بعض الوقار الاجتماعي المندوب إليه! وبالرغم من أن الكاتب يبذل جهداً فريداً في إيصال الفكرة وتصوير المشهد واستخراج الرؤية الواقعية والخيالية لكل ما يدور حوله من أحداث إلا أنه يظل متهماً بالتحيز والتمييز والطبقية وأحياناً بالتمييع والتهميش لقضايا مجتمعه أو واقعه السياسي .. والفكرة التي أود طرحها على قارئي الكريم هي أن هذا الكاتب إنسان انتقائي راقٍ مبدع بالفطرة يحمل في عقله من الحرية الكثير لكنه أيضاً يحمل حدوداً لهذه الحرية ويعلم تماماً أن القلم لسان الواقع ومجهر الوقائع وعدسة الأحداث إذ قد تفعل كلمة مالم يفعله فيلم مصور بمشاهد متباينة. ومن هذا المنطلق أؤكد فكرة أننا مسئولون عن ما نكتب وأن كلماتنا هذه ستأتي يوم القيامة شاهداً علينا, لهذا يجب أن نركز على تصوير الحقائق قبل تزييفها واستخدامها كدلائل مبررة لردات الفعل المحتملة حيال الحدث، علينا أن نلتزم الحياد تجاه المعتقدات السياسية والاجتماعية المختلفة حتى لا نستخدم أقلامنا لخدمة تلك المعتقدات فنصبح أبواقاً لها دون أن نشعر، كتبتُ قبل اليوم أن الكاتب إنسان يعيش في ظل قلمه وأردفت بعدها بالقول: من ينصف الوادي من بأس الجبل؟ واليوم أعيد صياغة الجملة بشكل آخر: تبقى الأودية صدراً رحباً حين تنهار قوى الجبل! نحن الكتاب شرايين الأجساد وتربة الحقول والأودية التي تحمل على ظهرها السيول العارمة. لا يستطيع الكاتب أن يتبع موجة الحدث إيماناً بها لأن قلمه سيموت على الفور، التبعية تقتل الإبداع وتظهرنا عراة من الإرادة وترسمنا كصور مكررة من رموز تاريخية لم تقبلها الشعوب. والآن هل سيتوقف عن الثرثرة أولئك المرضى الذين يريدون منا أن نحدد موقفاً من أحداث الوطن؟ متى ستتوقف سياسة إما أن تكون معي وإلا فأنت ضدي ومتى يؤمن هؤلاء أن العالم بأسره يعيش في ذاكرة الكاتب لكن الكاتب لا يمكن أن يتحول نسخة مكررة من ذاكرة التاريخ, متى ستتوقف ثقافة الضد والضد الآخر؟ مازلتُ مؤمنة بأن الثورات قد تغير في الشكل الخارجي للمدن لكنها لا تصنع المدنية الفكرية بل هي بذرة لنشوء ثورات أخرى مرادفة قد لا تولي فكرة تغيير الإنسان وتطويره أي اهتمام وهكذا يستمر مسلسل الثورات كما يستمر استئصال أعضاء المريض عضواً عضواً دون الوصول إلى الجزء المعطوب من الجسد, فالكل يجهل أن الإنسان يجب أن يكون هو محور التغيير. * ليست الحرية في الصراخ وتوجيه التهم وانتقاص معتقدات الآخرين لكن الحرية أن تؤمن بمعتقدات الآخرين وأن من حقها أن ترى النور تماماً كمعتقدك.