( قرحة قلم ) هو عنوان كتاب ألفه الكاتب الصحفي المثابر عمّار الطويل باطويل واللافت أن عمّاراً لم يرض سوى بدار حضرموت حاضنة لنشر كتابه، وما اختياره لحضرموت الدار اعتباطاً بل استجابة لصوت الحب الطالع من الذات الكاتبة لحضرموت أرضاً وودياناً وأهلاً بسطاء متطلعين لحياة كريمة، فعمّار قضى المطالع الأولى من حياته في وادي دوعن ليسر كما جاء في المقدمة التي كتبها الصديق الدكتور عبدالقادر علي باعيسى . وعودة إلى العنوان الرئيس للكتاب ( قرحة قلم ) لا يتردد القارئ في أن يربط العنوان بحقل الاحتراب والقتال . ولعل إعطاء القلم هذه الصفة القتالية ( قرحة ) و إسنادها إليه جعل الذات الكاتبة تطمح إلى أن تصطف مع تلك الذوات التي قاومت بالقلم وتغيت أن تكون أقلامها بنادق توجه لضرب الاستبداد والاستعباد وملحقاته من قيم الظلم والقهر الاجتماعي والنفسي و استبدال هذه القيم التي ترفع من شأن الإنسان وترفعه إلى عالم الحرية والعدالة الاجتماعية بالقيم المتردية. والعنوان يحضر بثقله الكامل في المقال الذي حمل العنوان الرئيس نفسه والمتوسد في الصفحة الخامسة والستين و استقرت في المقال مفردة ( قرحة ) في أكثر من مكان و تكررت ست مرات و لعل هذا التكرار ينم عن إصرار من الذات الكاتبة على أن يحدث صوت الكلمات الدوي نفسه الذي يحدثه صوت البندقية النارية ورغبة الكتاب في تجسيد صوت العنوان دفعه إلى أن يطلق الكلمات الآتية : (( هذه الأقلام الصادقة والمناضلة في الوطن العربي هي من صنعت الثورات وهي التي أظهرت جزءاً من حقيقة الطغيان للمواطن العربي ولولا هذه الأقلام والعقول النيرة لما كانت هناك ثورة تُذكر أبداً و ما ظهور الأصوات الحرة في حضرموت وعدن و أبين … وغيرها من المناطق الأخرى إلا بسبب قرحة قلم و بهذه القرحة الحرة قامت الثورة أولاً في الجنوب )) ثم يردف الكتاب بالقول ((ففي الجانب الآخر هناك أقلام في حضرموت مازالت تكتب عن هموم وطنها الذي مُرغ في التُراب من قبل قوم لا يفقهون في مفهوم الإنسانية و الأوطان شيئاً. هؤلاء القوم لابد أن تصلهم. ( قرحة قلم ) لتعريتهم أمام الشعب وطردهم من حضرموت شر طرده لأن من لا يُعمر الأرض و الإنسان لا يستحق أن يعيش بيننا . الأقلام تحرر الأوطان و العقول و ليس المدافع والطائرات وما تجربة غاندي إلا دليل على ذلك)) . إن الذات الكاتبة تعول على قدرة القلم القتالية ( أي قرحته ) و تعني انفجاره في وجه الطغيان و الظلم وتنتصر الذات لمعادلة القلم الحُر و ترى أنه أكثر فتكاً في مواجهة الحُكام الطُغاة من البنادق والطائرات فالحُكام ((الطُغاة لا يخافون من الدبابات و المدافع و الطائرات لأن لديهم العتاد نفسه وسوف يتصدون لها ولكن الذي يرعبهم (قرحة القلم ) التي تُسمع على مدى آلاف الكيلومترات خلاف الدبابات التي أصواتها لا تصل إلا إلى مدى قصير جداً)) ( 166) ولا تنسى الذات الكاتبة وهي ترفع من شأن (قرحة القلم) أو انفجار دويه في إيقاظ الوعي الحضرمي من سباته و تطلعه المشروع في الثورة على مضطهديه من الذين يقشون ثروته قشاً ولا يبقون له شيئاً ويقصونه من مراكز القرار والنفوذ وعبرت الذات الكاتبة عن هذه الأفكار بالآتي: ((فإهمال صوت الإنسان الحضرمي ونهب ثروته وتهميش دوره الحقيقي يخلق مشروعاً لثورة حضرمية في قرن الثورات. القرن الواحد والعشرين ويشرع في قيام دولة لها كيانها المستقل فقرحة القلم أو الأقلام هي التي تحرر الأوطان والعقل معاً))(167)وبعيداً عن المعنى الإيجابي الذي تغياه العنوان الرئيس من فاعلية القلم وقدرته الانفجارية أو (قرحته) في وجه الطُغاة نرى أن مفردة (قرحة) تحضر في مقال آخر وبمعنى مختلف عن المعنى المحمول على العنوان الرئيس والمقال المعني هنا هو المقال الموسوم ب(أنفلونزا القات وجنون البشر) فالذات الكاتبة تحيل صفة القرح إلى القات وتعطي القات صفة ليست فيه من أجل التأثير على القارئ و توضيح التأثير السيئ للقات على البشر الذي يصل إلى حد الموت وهو الوجه الآخر للطُغاة ((فالقات هو صوت الطُغاة والظلم و الاستبداد ورصاصته القاتلة تقتل الشخص بلا صوت و إن كان لرصاص البندقية بارود قاتل فللقات بارود قاتل و باروده عبارة عن أنواع من الحشرات و المبيد الكيماوي فهو سفاح يغتال الأرض و الإنسان))(130)س و في المقال السالف نفسه تجد مفردة القرحة تتكرر ونسبت إلى القات وهو انتساب يتغيا السخرية والاستخفاف من متعاطي القات الذي لا يقل تأثيره عن تأثير المخدرات فتأثيره يصل إلى حد الانفجار كما يتوهم المتعاطي الذي ينُشد بلوغ النشوة الكبرى ((فالقات يقرح في رمضان مرتين بعد الفطور وقبل السحور بساعة أي قرحتين وليس قرحة واحدة فهذه ميزة القات في رمضان الذي جنن بعقول البشر وأهدر أوقاتهم و أموالهم فيما لا يفيد))ويمكن للقارئ أن يحيل هذه الصفة القتالية للقات وبأنه (يقرح) او ينفجر إلى العقلية القبلية التي ترسخت بقوة في الجمهورية العربية اليمنية فهذه العقلية مُصرة على العنف لأن العنف بنية عميقة في تفكيرها ونظرتها إلى الأشياء فالنشوة عندها لا تصبح نشوة إلا إذا وصلت إلى حد الانفجار و أحدثت دوياً في الدماغ ودمرته إنها عقلية تنزع إلى التدمير وهي التي تحكمت في مصيرنا ومصير هذا الوطن وهي نفسها المهيمنة إلى اليوم بل ازدادت ضراوة لأنها جمعت بين المكر العسكري وحماقة المال وبربريته فكل شيء لابد أن يقرح أو ينفجر, هذه العقلية نفسها هي التي فجرت الوطن بالبؤس والفقر وهي التي لازالت تلعب لعبة السادة والعبيد ولا تستطيع أن تقر بالمواطنة المتساوية وتسعى بقوة إلى أن تكون مواطنتنا منقوصة بل مسلوبة فيما يخص النفوذ والتحكم في الثروة والقوة. إن الشواهد السابقة التي حملت حضور العنوان الرئيس وأضاءته من الداخل و سوغت توظيفه من الذات الكاتبة يمكن تعزيزها بشاهد آخر غير مباشر وهو شاهدٌ اجتماعيٌ ونفسيٌ ربما كان حافزاً في اختيار العنوان ففي المقال الخاص بوادي العسل يطل هذا الشاهد من الذات الذاكرة إذ تستحضر منها ا لآتي ((يأتي السيل من مرتفعات الجبل منحدراً إلى القُرى في الوادي يقوم أهالي كل قرية في الوادي بإطلاق أعيرة نارية وهذه الأعيرة إشارة للناس المارة في الطريق بأن السيل قد اقترب وعليهم أن يحذروا منه لكي لا يجرفهم. وهكذا تمضى الساعات وكل قرية تنذر القرية المجاورة لها بصوت البندقية حتى يحذر الناس من السيول الجارفة وفي الوقت نفسه بشارة لهم بأن السيل قد أتى وقد حان وقت حراثة الأرض وزراعتها))(170). إن (قرح البنادق) او انفجارها لعلى علاقة غير مباشرة مثلما أسلفنا بالعنوان الرئيس فصدى الأعيرة النارية الذي تطلق من أجل التحذير من خطر السيول ظلت تحوم في ذاكرة الذات الكاتبة وحينما خيمت هذه الظلال على الذاكرة ولم تجد الذات بداً من تحويل هذا الصدى إلى عنصر في المعنى العميق للعنوان والذي جسد كصورة كتابية على وجه الغلاف _ لقد أسهمت هذه الأجواء الطالعة من الذاكرة في العنوان على الرغم أن مفردة قرحة لم تذكر مباشرة ولعل عذرنا في عد هذه الأجواء التحذيرية من السيول حافزاً نفسياً في اختيار العنوان الرئيس هو القدرة التجاوزية للغة على تخطي الصورة الكتابية فهي أعمق من ثبوتيتها و تتغيا التبدل والتغير وهي بنية تتفاعل عناصرها وفي أثناء التفاعل تتبادل الأدوار فتشع الدلالات باستمرار لتضئ اللغة وجودها ويضئ معها الكون برمته. ويمكن للقارئ أن يستدعي المشهد اللا مباشر المتعلق بالعنوان الرئيس مع بعض التفاصيل الحياتية الصغيرة الذي امتزج فيها الحربي بالاجتماعي وشكل هذا الامتزاج مسلكاً وأعرافاً كانت محمدة على الأهالي في دوعن إذ جنبتهم خطر السيول القاتل وجعلت البنادق تكف عن توزيع الموت على الوادي و تُسهم في توزيع البشرى والخير على الوادي . إن الأعيرة التي تطلق في فضاء وادي العسل تكون مصحوبة بالفرح المفعم بالجلال والهيبة _ ومن الصعب فصل هذه الأعراف والعادات الخاصة بإطلاق الأعيرة النارية للتحذير من السيول عن عقلية القبيلة في دوعن فهي ترتد إليها والفضاء في دوعن لم يفلت بعد من ذهنية القبيلة على الرغم من أن ظاهرة حمل السلاح قد تراجعت قبل الوحدة ولكنها عادت بعد الوحدة وبتشجيع من السلطة المركزية التي تناسلت من العقلية القبلية والتي وزعت مساوئها على كل ذرة في جسد الوطن. إذ أصبح حمل السلاح والحرص على امتلاكه مسلكاً عاماً ومطلباً نفسياً واجتماعياً وتأكيدا على المكانة الرفيعة في المجتمع. وبمناسبة إطلاق الأعيرة النارية فهي لا تطلق من أجل التحذير من السيول وحسب بل تطلق في الأفراح والمناسبات السعيدة مثل قدوم عزيز من السفر أو ولادة مولود جديد للعائلة ولكل مناسبة من هذه المناسبات تقاليد متعارف عليها بين الناس من الرصاص إذ إن كل مناسبة لها ما يدل عليها من حبات الرصاص . كان هذا معمولاً به في الماضي أما اليوم فتطلق الأعيرة النارية بصورة عشوائية وبدأت تحل محلها الألعاب النارية خاصة في مناسبات الزواج وهذا يدل على تفكك بنية القبيلة التي تريد لها السلطة المركزية في الجمهورية اليمنية أن تكون مفككة ورخوة فهي تريدها على هذه الحال وكفى لها بالضعف غاية, لأنها لن تسمح بأن تكون قوية . لأن في ذلك تهديداً لها . ويمكن أن يمتد التفكير بالقارئ إلى خارج الكتاب ليحلق بالمشاهد التي سوغت للعنوان من الداخل سبباً خارجياً تمثل في التغيرات السياسية التي اجتاحت أغلب الجمهوريات في الوطن العربي أو ما سمي (ثورات الربيع العربي ) التي تمكنت من الإطاحة برموز سياسية سعت بضراوة إلى أن تؤبد نفسها في السلطة وحفز سقوط هذه الأنظمة القمعية مشاعر الذات الكاتبة وألهب حماسها ودفعها الى أن تعلن هذا الحماس في اختيار هذا العنوان القادم من الأجواء الثورية فكان عنواناً تعبوياً وثورياً يحمل في بنيتهِ صوت الدوي والانفجار أو بتعبير العنوان (قرحةُ قلم ) وربما اطمئنان الكاتب إلى هذه المفردة العامية (قرحة ) يعودُ الى تطلعه إلى أن يكون قريبا من روح الجماهير الفقيرة والمفقرة في الواقع المحلي لأن هذه الجماهير هي التي تتقدم الصفوف في المواجهة الثورية . فضلاً عن رغبة الذات الكاتبة على التحريض ورفع درجة الاشتعال الثوري في الواقع المحلي وتطمح إلى أن ينجز الفعل الثوري بأسنة الأقلام ما عجز الفعل الثوري عنه في الواقع الفعلي ولذا تصرخ الذات في وجه الطغاة في حضرموت وتقول ((هناك أقلام في حضرموت مازالت تكتب عن هموم وطنها الذي مرغ في التراب من قبل قوم لا يفقهون في معنى الإنسانية والأوطان شيئاً . هؤلاء القوم لأبد أن تصلهم ( قرحه القلم ) لتعريتهم أمام الشعب وتطردهم من حضرموت شر طردة لأن من لا يعمر الأرض والإنسان لا يستحق أن يعيش بيننا)) (166 ). وحتى تنسجم الذات الكاتبة مع تطلعاتها الحماسية والثورية اختارت اللون الأحمر لتُزين جسد العنوان به ولم ترض عنه بديلاً .واللون الأحمر له دلالته الرمزية التي لا يمكن أن تخفى على كل قارئ لبيب , وشفعت الذات هذا المقال بقدر من الجرأة اللافتة التي لا تتوافر في جل المقالات القارة في المتن وربما يعود ذلك إلى تحرر الذات الكاتبة من أي مؤسسة رسمية أو حزبية فمؤسستها ضميرها الحي وقناعاتها الخاصة التي تملي عليها ما تراه مناسباً ومعززاً لثقتها بنفسها ورغبتها في ممارسة حريتها بدون قيود، إنها تريد أن تدفع بأفعالها إلى أقصى مدى ممكن ولو وصل الأمر إلى حد الانفجار إنها (قرحة قلم ) وفي المطاف الأخير إن هذه (القرحة)هي (قرحة) الذات الكاتبة نفسها. وإذا ما التفت القارئ إلى العنوانات الفرعية وأختار منها العنوان الفرعي الموسوم ب(وادي العسل ) سيجد أن هذا العنوان يمثل بنية مستقلة تشي بالدلالات الموحية والرمزية عن هذه المادة الغذائية الذي قرنها القرآن الكريم بالشفاء والمنفعة للإنسان فضلاً عن الحكايات الشعبية الذي تروى عنها من أهل العسل أنفسهم ومن الحضارمة عامة .فالعسل عند هؤلاء لا يقوي المناعة ويطهر المعدة والعيون والجسد من الجراثيم و الميكروبات بل علاج للأمراض العصية والمستعصية ولم تتردد العيادات التي تعالج بالقرآن بأن تقدم العسل في رأس قائمة أدويتها باستمرار وحسبها أن القرآن قد جعله شفاء للناس ويمتد تأثير مادة العسل في أذهان البعض إلى قدرته الفائقة على رفع القدرة الجنسية عند الرجال .وفي المقال العسلي نفسه نرى الذات الكاتبة تمارس حقها في التعبير عن شجونها وشغفها الجم بدوعن المرسومة بحياة الناس البسيطة وتفاصيلهم اليومية وما تفصح عنه من مشاهد رائعة تُعبر عن إقبال الناس على الحياة ((ففي الوادي يذهبن النساء في الصباح إلى الحقول والبعض يسرحن بالأغنام للمرعى في الوادي أو في المناطق المرتفعة على هذا الوادي وجباله )) (169). إن هذه الحياة على بساطتها وعفويتها تمثل عسل الحياة ,واستعذبت الذات الكاتبة في هذا المقال سيلان الذاكرة وتركت لها استحضار اللحظات والمشاهد التي تؤجج الحب لهذه التفاصيل الحياتية وتُزيده لهيبًا لتضئ الروح من الداخل وتتذوقها كما تتذوق اللسان (العسل) ولعل هذا التلازم بين مفردة العسل والوادي منح العنوان جمالية حسية تنداحبالتدريج عن حسيتها وتبث أبعاداً رمزية تتصاعد من مفردة العسل نفسها وترتد هذه الرمزية نفسها على المكان دوعن فالعسل يتضمن بالضرورة المكان دوعن . فيكفي أن تعلن الذات الكاتبة عن وادي العسل ليفهم القارئ الحضرمي دوعن . لأن دوعن اشتهرت بعسلها فهي لأتذكر إلا وعسلها متضمن فيها وحتى لا ندع لأنفسنا أن نستطرد في العسل ورمزيته نكتفي بهذا القدر من الكلمات عن العنوان الرئيس والفرعي. جامعة حضرموت / كلية الآداب