كانت حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) مع خديجة هي الحب أنهاراً من عسل مصفى.. إن عيد فالانتين هو عيد خديجة الفعلي. ومع خديجة لم يتزوج غيرها، فلما اختفت بدأ البحث عمّن يملأ مكان خديجة، واستمر البحث.. حتى جاءت لحظة الوفاة كما حصل مع نابليون؛ فكان يكرر في لحظات الموت الأخيرة من أحب فعلاً.. كان نابليون يكرر جوزفين.. جوزفين.. جوزفين..!!. لقد كانت سعده ونصره، ومعها حقق أعظم الأحلام، وانتزع التاج من يد البابا، فلبسه وألبس جوزفين.. وكذلك كان النبي يتذكر في لحظات وداعه الأخيرة خديجة؛ فكان يكرر: بل الرفيق الأعلى.. بل الرفيقة فوق.. في جنان الخلد، حيث لا فراق بعد اللقاء، ويقولوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.. حقيقة إن مرار الحياة حلاوته الحب حتى تصبح الحياة تطاق.. والمرأة هي ذلك الدواء.. عرفت ذلك من تلك المرأة التي قاربت الكمال ليلى سعيد زوجتي التي اشتاق لها الرب فناداها على عجل، فلم تعمر.. وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب. ولقد أنقص من عمرها فودعتنا دون مرض وعجز، وماتت في عمر النبوة رضي الله عنها ورضيت عنه. إن أعظم الخلائق الإنسان، ولكن أعظم خلق الله هو المرأة، فنحن الذكور قساة، مدشنو الحروب، يعلونا الشعر أشبه بالغوريلات. أما المرأة فهي ذلك المخلوق المشرق الرائع، الذي يشع جمالاً ورقة، ونعومة وأنوثة، وسحراً ودلالاً. صوتها موسيقى، وحركاتها سحر، وفتنتها طاغية، وحضورها يؤنسن المجتمع، ويدفع فيه الرحمة. لذا اعتبر القرآن أن الزواج هو الذي يحول البشر إلى كائنات إنسانية، بالمودة والرحمة والسكينة. وكل من يفعل هذا هي المرأة، فهي سيدة الوجود، وصانعة الحضارة بالثورة الزراعية، حين كان الفحل يهيم على وجهه في ظلمات الصيد وجمع الثمار، هي من تمنح الحب بلا مقياس، ولا تشارك في الحروب التي يصنعها الرجال، كراهية وجشعاً وجنوناً. لذا استعملتها الطبيعة في موضع الإنجاب، حملته أمه وهناً ووضعته كرهاً، ووكلت إليها أمانة نقل الثقافة، وتربية الرجل بمنحه العائلة والهدوء في كل معمعة، فبوركت يا أنثى فأنت موضع حب النبي. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»، فكانت المرأة المحبوبة الموهوبة أحد أسرار الحياة الثلاث: الروح والريحان وجنة نعيم. المرأة هي من تحمل الثقافة والجنين، فتربي الطفل وترضعه الثقافة، وتنقل له اللغة والمفاهيم، فيتحول إلى كائن اجتماعي، ولولا المرأة لبقي الإنسان أقرب للشمبانزي والغوريلات والأورانج أوتان. المرأة هي أم الحضارة ولولاها لما انبثقت الحضارة، وهو كشفُ تعرف عليه علماء الأنثروبولوجيا، مع أسفهم لماذا لم تقد المرأة المجتمع، وتركت المجال للفحول، يركِّبون الحضارة على عجل وخطأ، بنموذج الثكنة وهيراركي الرجال (الباتريارك)؛ فأصبح المجتمع أحول أكتع، يقفز برجل واحدة مثل أسطورة شق وسطيح، فأما الأول فكان دون فقرات مثل الكائنات الرخوية، وأما الثاني شق؛ فكان نصفاً بساق واحدة، يقفز قفزاً مثل الجراد. المرأة هي سيدة الجمال الباهر، واللطف والأنس، والشخصية المؤثرة، والثقافة باعتدال وتسامح. سحر المرأة جذب كبار السن، ليبنوا بمن هن أصغر سناً جداً، لهذا السحر الذي لا يقاوم، واللغز المحير في الأنثى؛ فبيكاسو سيد اللوحة وأبو السيريالية تزوج من أربع فاتنات كانت الأخيرة في العشرينيات. وشليمان الكهل أبو الاكتشافات، لم يشأ أن يضع كنز بريام من أنقاض طروادة، إلا على صدر حبيبته الصغيرة اليونانية، ذات العشرين ربيعاً. وسنان أبو العمران بنى ما بنى من كل جسور الإمبراطورية العثمانية، بنى في نهاية حياته بشابة صغيرة وهو في الثمانين؛ فأنجبت له غلاماً زكيا. ونابليون وهو في جزيرة المنفى سانت هيلانة، آنسته خليلة حملت منه بطفلة، ولدت له في باريس كانت نابليونة. وسيشرون أبو الخطابة والجمهورية، أنهى حياته في حضن شابة صغيرة وهو في الستينيات، فمنحته أجمل ساعات حياته طراً، في دنيا طوقتها الحروب الأهلية والمؤامرات والدماء تجري كالأنهار. هذه الأيام نحن في ذكرى عيد الحب فالانتين، ونحن نرى أزمة المجتمع العربي واضحة جداً بغياب المرأة، فالبيوت قلاع، والنوافذ ضيقة والتهوية رديئة، كله بسبب الحجر على المرأة. والتعليم فساد طام كله بسبب غياب المرأة، والقسوة والحرب والظلم عام عارم كله بسبب غياب المرأة. لذا وجب أن نقف في برد فبراير لنأخذ قسطاً من دفء الحب في عيد فالانتين، الذي عاش للحب وقتله الإمبراطور، لأنه يشيع الحب بين الجنود، فيتقاعسون عن مهمة ذبح الشعوب. قال جلال الدين الرومي في الحب: "سأقول لك كيف خُلِقَ الإنسان من طين؟ ذلك أن الله - جل جلاله - نفخ في الطين أنفاس الحبّ. سأقول لك لماذا تمضي السماوات في حركاتها الدائرية؟ ذلك أن عرش الله - سبحانه - يملؤها بانعكاسات الحب! سأقول لك لماذا تهبّ رياح الصباح؟ ذلك لأنها تريد دائماً أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات ورود الحب! سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائله؟ ذلك أنه يدعو الناس إلى الصلاة في مخدع الحب! إنني لأستطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة؟ فما الحل الأوحد لكل الألغاز سوى الحب!" فليكن يوم فالنتين هذا عيد حب للجميع، تتبادل فيه الشفاه رحيقها، والقلوب أسرارها، والأجساد لذتها الأبدية. أما الشاعر الصوفي عبدالرحمن جامي، مؤلف قصيدتي الحب الكبيرتين، ليلى والمجنون ويوسف وزليخا، فيقول "إن الحب المتقد يهيئ الإنسان للحب الإلهي: إذا أردت أن تكون حراً فكن أسير الحب، وإذا أردت أن تكون سعيداً فافتح قلبك لعذاب الحب، إن خمر الحب تعطي حرارة ونشوة ولا شيء من غيرها سوى الأنانية الباردة… يمكنك أن تتبع مثلاً عليا كثيرة ولكن الحب هو وحده الذي يخلصك من نفسك… وإذا أردت أن تتذوق جرعة من خمر التصوف فعليك أولاً أن ترتشف كأساً من خمر الظواهر… وعلى من يسعده الحظ ويكن حباً لإنسان ويستشعر هذا الحب، عليه أن يستسلم له، ويتجاوب معه بامتنان ويعتبره نعمة ويفخر به… ولكن كما أن مباهج الحب البشري تفوق كل ما تجلبه الثروة والسلطة للإنسان، كذلك فإن الحب الروحي والوحي ثمرة الإدراك الأسمى، والرؤية المباشرة للحق، وهذه هبة وفضل من الله، يفوقان كل ما يمكن أن يعطيه إيانا حب البشر الأكثر عمقاً وإخلاصاً. ويقول جلال الدين الرومي: "إن من يعرف أخطاءه ويقر بها يتقدم سريعاً صوب الكمال، ولكن من يتصور أنه كامل فإنه لن يتقدم نحو الإله العملي، وليس هناك من خسران يصيب روحك أسوأ من تصورك أنك كامل، والمحب هو الذي يمكن أن يشعر أنه مقصر".