من البديهي أن يثير الشعر بعامة والعربي منه بخاصة جملة من الأسئلة الإشكالية نظراً لارتباط الشعر باللغة بمعناها العام، فاللغة الشعرية ليست نصاً مكتوباً فحسب، ولكنها أيضاً ذلك النص المكتوب الذي ينزاح بمؤثراته متوازياً مع سلسلة من الإشارات والاتصالات غير اللفظية. واللغة المكتوبة بذاتها حمّالة معانٍ ودلالات، كما أنها مُعادل كبير للمناورات البصرية الصوتية بأنواعها الموسيقية والتشكيلية وإلى ما يتجاوزهما في الفراغ المجرد. وإذا كانت اللغة لصيقة الكلام والتعبير اللاحق له، فإنها أيضاً لصيقة “المُخاتلة” الإبداعية اللامتناهية، ذلك أن اللغة كائن حي يتحول ويتحور ويتسامى ويتواضع ويتخشّب مُتقمصاً أشكالاً لامتناهية. اللغة جسر العبور إلى الشعر، لكنه جسر قابل للانهيار، والشاهد أن شعر الشعراء لا يتساوق من حيث الغنائية والشعرية الموصولة بأسباب اللغة وقابلياتها المتعالية على الدلالة المجردة. هكذا يمكننا إذاً أن نرى نظماً ليس بشعر، ونثراً أقرب إلى الشعر بل هو الشعر ذاته، وليس غريباً والأمر كذلك أن يصف البردوني جبران خليل جبران بوصفه “ذلك الذي نثر الشعر وأشعر النثر” في لطيفة من لطائف إشارات الراحل الكبير عبدالله البردوني. قبل مدة وقفتُ على بعض أبعاد الفنان الشامل الشاعر الوجداني لطفي جعفر أمان، وقد وجدته شاعراً موسيقياً تشكيلياً وإعلامياً من طراز رفيع مما لا نستطيع تفصيله في هذه العجالة. كان لطفي أمان يجمع في ذاته قابليات متنوعة، يكتب الشعر ويرسم.. يعزف على آلته الوترية فيما يعتبر لحظات استرخائه الذهني قرينة الغناء مع أطفال الحارة، وإلى ذلك لم يكن إذاعياً مطبوعاً فقط، بل كان يقوم بأدوار تمثيل متعدد الشخصيات، مقلداً الأصوات، وناشراً ظلالاً لثقافته الدراماتورجية الرفيعة. هذا الشاعر لم يقدم شعراً يستقيم في بيان اللغة فحسب، بل قدم شعراً مموسقاً بأحوال الوجود وتعدد الاهتمامات مما يدلنا على طريق الشعرية الشاعرة والموسيقية المموسقة، والغنائية المدوزنة بالذائقة والدربة.