انتهت الحرب وانطوت برحيلها بضعة أشهر كافح فيها اليمنيون من أجل الحفاظ على كيانهم الحضاري الواحد وكلمتهم الواحدة وتاريخهم الواحد، واليمنيون بهذا الكفاح يجددون اختيارهم لطريق الانعتاق والحرية ورفض الوصاية عليهم من أيٍ كان، أما الدرس المستفاد فإن ثمة حقائق قد نشرت نفسها على حبل هذه الحرب تشير إلى خلل تتحاشاه الأنظار، وهو اليوم يزداد عمقاً في المنظومة الثقافية والاجتماعية للشعب اليمني , ويبدو متركزاً في علاقة “المثقف” بالقبيلة. ونحن لو عدنا إلى تاريخ الكفاح الوطني وتلمسنا مواطن تعثراته ونهوضه لوجدنا أن علاقة “المثقف” بالقبيلة أثّرت إيجاباً وسلباً في مسيرة الكفاح , وكانت تشكل معه علاقة جدلية يتبادلان من خلالها عوامل التأثير والتأثر. كشفت الحرب اليوم أن التنافر الحاصل بين “المثقف” و”القبيلة” يمهّد الطريق من حيث لا يدري الجميع لبروز نتوءات على أرضية الوطن لها أهدافها الشاذة التي تريد أن تغير بها مسار التاريخ المعاصر للجمهورية والانحراف به نحو طموحاتها وأطماعها التي أصبحت تشرعن لها في محيط “القبيلة” في ظل غياب “المثقف” بعد أن ترجم هذا المثقف المصطلحات المستوردة وأخطأ في تطبيقها فانحرف – هو الآخر – بالنضال وجهود التغيير ليقحم نفسه في عداء لا مبرر له مع “القبيلة”، وكأن القبيلة كيان جامد لا ينظر إلا الخلف ولا يقبل بالتغيير والتحديث , وهذا خطأ أوجد – وهذا ما قلته آنفاً – مساحة فارغة في حياة القبيلة فجاء من يعد العدة لتجنيدها لصالحه ويضع في رأسها مفاهيم جديدة تشككها بقيم الثورة والجمهورية والديمقراطية، ولذا يمكن القول إن استمرار هذا التشكك في ظل غياب المثقف عن محيط “القبيلة” سينتهي به أصحاب الأهواء إلى يقين القبيلة بعبثية الحركة الوطنية التحررية ومن ثم ستتوقف عن استلهام المبادئ من تاريخ الكفاح الوطني ورموزه الخالدين والتخلي عن موروثهم الحضاري الذي خلفوه للأجيال. في هذه الأيام تنشر صحيفة “الجمهورية” حلقات متسلسلة من مذكرات الأستاذ أحمد محمد نعمان – رحمه الله – “سيرة حياته ونضاله الوطني” , ويمكن القول إن نشرها في حلقات جعلني كغيري ممن يتابعونها بروية والتذاذ , وإن كنت أراني مهتماً دائماً بقراءة ما يكتب عن “الأستاذ” في المتفرقات الصحفية. ولا يهمني هنا أن أتحدث عن دسامة الزاد الفكري الذي تقدمه هذه المذكرات اليوم للباحثين والدارسين التاريخيين والاجتماعيين فضلاً عن الأسلوب السحري الذي يتحدث به أعظم محاور ومتحدث وخطيب مفوه عرفته اليمن في القرن العشرين.. لقد قال لنا التاريخ الحديث إن أحمد محمد نعمان كان آية في الفصاحة والبيان. ما يهمني هنا هو أن أشير إلى ملمح مهم لإضاءة مسيرة النضال الوطني المعاصر نستشفه من تاريخ النضال الأربعيني والخمسيني والستيني لرموزه الكبار من أمثال الأستاذ نعمان والزبيري والإرياني وغيرهم. فلم يكن المثقف آنذاك في عداء مع القبيلة.. بل كان يتوغل في أوساطها ويتبادل معها الخبرات والتجارب ويحفزها وتحفزه للاستمرار في التضحية من أجل الانعتاق من الجبروت والتسلط والانتصار لإرادة الشعب وتطلعه إلى التقدم والازدهار. يشير الأستاذ في مذكراته إلى أن القبيلة كانت عضد النضال وصوته المنادي بالحفاظ على السيادة الوطنية وضرورة تكوين أساس متين وواضح للعلاقة مع الأشقاء. كانت القبيلة آنذاك تصغي لحملة التنوير والتغيير وتناصر أهدافهم وخطواتهم , ويمكن القول إن فترة ما بعد الثورة السبتمبرية مثلت أخصب فترة لعناق “المثقف” مع “القبيلة” ولا سيما عند تشكيل الحكومة برئاسة النعمان ووقوف القبائل دون إجهاضها، فمذكرات النعمان توحي بأنها الفترة التي ازداد فيها وعي المثقف بأهمية دوره في نشر المفاهيم السليمة وافتراضه لإيجابية القبيلة وأهمية إنهاضها للتشارك معها في دعم مسيرة النضال والتحرر. وهذا ما يجب أن يدركه المثقفون اليوم، فالأيام تثبت أن “القبيلة” اليوم بمعزل عن فكر “المثقف” الوطني وإسهامه في الحفاظ على المكتسبات الوطنية. إن مثقف اليوم يفترض في القبيلة الانطواء والتقوقع وهذا جعل القبيلة تعيش لوحدها بعد أن استعلى عليها هذا “المثقف” واختار العمل الاجتماعي في إطار منظمات مدنية وهيئات توعية وتثقيف تنحصر في وسط المدنية. لقد أُهمِلَتْ القبيلة فخلت مؤسساتها التعليمية من الطلاب وخلت منابرها من الخطاب الإرشادي الواعي لمسئوليته تجاه القبيلة, وخلت جلساتها من المثقفين المكرسين للمبادئ والأفكار الصحيحة , ويوم أن حدث ذلك أصبحت القبيلة في مهب الاطماع والأهواء، فجاء من يستأجر القبيلة لاختطاف الأجانب والأقارب وقطع الطرقات وانتهاج الإفساد في كل ما هو ملك عام , ثم جاء آخرون لجرجرة القبيلة نحو الخروج عن شرعية الدولة وأغروها بالقتل ومواجهة سلطات الأمن، وهذه الحرب الأخيرة قد أشارت إلى سلبيات هجر القبيلة والتخلي عن توعية الناشئة فيها , فخطّت عناصر الإرهاب والتخريب والتمرد في صفحات عقولهم البيضاء حروف الكره والحقد وقداسة القتال باسم “سيدنا” , والحل أن يوصل ما انقطع بين (المثقف) و(القبيلة).