بالرغم من تقادم الجدل حول ماهية الشعر وموسيقاه، وبالرغم من التفارقات في الرؤية حد التجديف المُتعصّب عند أنصار القديم والجديد معاً، إلا أن سؤال الشعر والشعرية يظل مُهماً ومُحفزاً على الاجتهاد، ولا نريد هنا أن نستعيد ذلك الجدل البيزنطي حول معنى الشعر وما يفصله عن بقية الكلام، وكيف أن الموسيقى الشعرية تمثل رافعة أساسية لتمييز الشعر عن اللاشعر، لكن ما أود قوله يتلخّص في أن شعرية الشعر مستمدة أساساً من شعرية الأصل، وأقصد بالأصل هنا اللغة ومقدماتها، فالكلمة أساس اللغة، والحرف أساس الكلمة، ولهذا السبب سنعود إلى الحرف لنستجلي معنى الشعرية الجنينية في ذلك الحرف، وسوف لن أُقدم اجتهاداً ذاتياً هنا وأنا استعيد ببساطة ما قاله الأسلاف حول مقام الحرف مُجيراً على مستويين: المستوى الكتابي التشكيلي، والمستوى الموسيقي الصوتي. فالحرف صوت تمّتْ ترجمته إلى كتابة أو تشكيل، والصوت يصدر عن الإنسان وميزانه الفيزيائي وتحليقاته الروحية، ولهذا السبب يُترجم الحرف ميزان الفيزياء البشرية، بالإضافة إلى ميزان التفاعل الإنساني مع الوسط المحيط مما يمكن تسميته بالتروحُنْ، وهكذا يصبح الحرف قائماً في أساس هذا الميزان ونواميسه الجبرية. يستوي البشر في تراكيبهم الفيزيائية فيما يتمتعون بذات القابليات الإنسانية للنطق ضمن ميزان محكوم بالتراتب بين السكون والحركة، فإذا كان الحرف الواحد صادراً عن مقام صوتي مؤكد، فإن تناوب الحروف في إطار الكلمة الواحدة موصول بالتناوب الشرطي «بتشديد وفتح الشين» بين الساكن والمتحرك، وهذا أمر تتساوى فيه كل لغات البشرية المعروفة والمجهولة «المندثرة»، وعليه فإن الكلمة تحمل في دواخلها وتركيبها البنائي الصوتي، بل أيضاً تركيبها الشكلاني الكتابي ذات القيمة الموسيقية النابعة من التناوب الشرطي بين الحركة والسكون، والأدلة في هذا الباب تتسع باتساع اللغات الإنسانية، والحاصل أن الكلمة مموْسقة استطراداً على موسيقى الحرف وطاقته، وإذا انزحنا من الكلمة للجملة فإن الموسيقى تظل قائمة في أُفق متجدد وبانزياحات تتعقّدُ كلما تقدمنا خطوة للأمام ونحن نتحرك من البسيط إلى المركب. بهذا المعنى يبدو الحرف بوصفه المفردة الأولى في موسيقى الوجود الإنساني، بل التميمة الأساسية لمعنى الموسيقى في الكلام، ثم تأتي الكلمة بوصفها العتبة الأولى في موسيقى المقول، وإذا ما وصلنا إلى الجُملة فإن تلك الموسيقى تتخذ أبواباً وأبعاداً أكثر تعقيداً وشمولاً. العلاقة بين الحرف والإنسان كالعلاقة بين قطرة الماء والبحيرة، أو بين حبة التراب والصحراء، فتأمل معي معنى الحرف وما هي الأبعاد والطاقات المودعة فيه.