ظل السجال على أشده بين أنصار القصيدة العمودية وشعر التفعيلة من جهة، وأنصار قصيدة النثر من جهة أخرى، وقد كان جوهر السجال مُتركزاً على شعرية الشعر، ومن أين يستمد الشعر خصوصيته بوصفه نوعاً أدبياً مُفارقاً للنثر بأنواعه، وهذا السجال القديم الجديد كان ومازال محتدماً، ومازال البحث فيه موازياً لرأيين غير مكتملين : الرأي الأول يرى أن ميزان الشعر وشعريته كامنة في الموسيقى المستمدة من التفعيلة، بوصف هذه الموسيقى الدالة الأولى على درب الشعرية والشعر . ويتصل الرأي الثاني بفرضية تنويع وتعدد أبحر الخليل بن أحمد الفراهيدي من جهة، مع استطراد حاسم على مايسمى بالموسيقى الداخلية للشعر والقادمة من التخييل والفراغات وعدم اكتمال المعنى . وفي تقديري أن كلا الرأيين يتوفران على مصوغات وجيهة وينظران للشعر من زوايا مختلفة ولايعدمان الحيلة والفتيلة لإثبات مايذهبون إليه . لكن هذين الرأيين أغفلا ويغفلان التميمة الأولى القادمة من شفرة اللغة بوصفها الضابط الأساس لموسيقى النص، فاللغة «أي لغة» على وجه الأرض تُرجمان لقابليات صوتية يصدرها الإنسان عطفاً على فيزياء الجسد وقابلياته، وهذه القابليات الصوتية تُترجم لاحقاً إلى حروف مرئية ومسموعة. أي أن تلك الحروف تحمل في طيّاتها ميزان الصوت الصادر عن الإنسان، ولأنها بهذه المثابة، فإن ميزان الكتابة للحرف يوازي تماماً ميزان الصوت، ليس فقط كترجمة ميكانيكية مباشرة، بل أيضاً كتنويع على التمدد والانكماش، حتى أننا نستطيع تكرار البديهة القائلة بأن الصوت الواحد يتنوّع قصراً وطولاً ... خفوتاً وجهراً، تماماً كما يتنوع الحرف المقابل طولاً وقصراً .. وهكذا . الإشارة هنا تطال موسيقى الحرف ذاته، وتالياً تجاور الحروف ضمن ميزان نسقي ينتظم حيناً ولاينتظم أحايين أُخرى، فيصبح الحرف وتصبح الكلمة كالدُر الذي قال فيه البوصيري : فالدُرّ يزداد حُسناً وهو مُنتظم وليس ينقص قدراً غير منتظم ثم بعد ذلك نأتي على الخوارزميات الرياضية الجبرية الحاضنة لموسيقى الحرف والكملة والعبارة. إذاً واستناداً إلى ماسبق لاتمكن الشعرية بأبعادها الموسيقية المنظومة في الزمن- الإيقاع- الرتم ... إلخ، في شكل واحد ووحيد، وهنا المصيدة الكبرى التي يقع فيها حداثيو الشعر والتشكيل والموسيقى ممن يجربون دون امتلاء مسبق بالأصول .. وللحديث صلة.