المهاجرون أينما كانوا في العالم يتمسكون بالجذور أكثر ممن يعيشون في بلدانهم، ويظلون يحنون لتلك الجذور التي تترسم في أذهانهم بمزيج من الحقيقة والخيال . عندما انتقلت إلى اليمن بعد نهاية الثانوية العامة كنت كأنني أتنقّل في الحارة ذاتها التي عشت فيها في المهاجر، لا يوجد شيء غريب بالنسبة لي. وبما أنني عشت بعيداً عن اليمن فأنا أعتبر تلك المُقدمات حالة للثقافة العربية الافريكانية الأوروبية. الحالة اليمنية تمثل معادلاً مركزياً في هذا الافق، لأن اليمن شهدت حضارات تاريخية قديمة: السبئية والحميرية، المعينية والحضرمية،والقتبانية، وكل هذه الحضارات تمثل مقدمات للحضارة العربية، وأيضاً الحضارات الإنسانية التي انتشرت على ضفاف أفريقيا الكبرى، وخاصة في شرق أفريقيا والهضبة الاثيوبية. ويمكننا تلمس هذه الترميزات الحضارية في تضاعيف تلك الشفرات التي تفاعلت في اليمن التاريخي محمولة بوعاء العربية، وتلك الشفرات التاريخية التي مازالت بعض آثارها في أثيوبيا والصومال وتنزانيا ,كينيا وأريتريا وجيبوتي وشرق السودان وصولاً إلى أقاليم الصحراء الكبرى. مثل هذا الأمر سياق جبري لكل الحضارات الإنسانية، في مصر والعراق وسورية وفي أي مكان من العالم. هذا ما يمثله الوطن، فالانتماءً يتجاوز المعنى السلالي ليصير حالة دالة.. يتجاوز الزمكانية إلى ما أُسميه بالحضارة.. الحضارة بوصفها الترميز الأقصى للحقيقة الكلية.. الحضارة المتلصقة بالإنسانية، المتداخلة المتواشجة بالضرورة. البيان اللغوي السلالي للحضارة لا يعني كونها فريدة ذاتها أو أنها مقطوعة الجذور عن الحضارات الإنسانية الأخرى.. كل حضارة تعني وتحمل في نهاية المطاف البصمة الإنسانية المتعددة الشاملة، ولهذا كانت من حسنات المهاجر والتنقل أن يصبح الإنسان على يقين بأن الإنسانية واحدة، واللغات الإنسانية واحدة، وهموم البشر واحدة، وأن ما يجمع الناس أكثر بكثير مما يفرقهم لولا القوانين والأعراف الدنيوية الموروثة من تواريخ المتاهات والاستبدادات والاستباحات. الخلاسية هي الكياء الأخير للشعوب ، وما عدا ذلك ينتمي إلى منطق «الأقحاح» الفاقدين لإنسانيتهم لسبب بسيط يتمثّل في كونهم يستمدون حضورهم من تغييب الآخر ونفيه.