يكاد يجمع النقاد والباحثون في قضايا الفكر الإسلامي على وجود أزمة حقيقية يعيشها الخطاب الديني السائد ، وهو ما يعني وجود أزمة في الوعي الديني ، وفي التدين ، وفي تنزيل قيم الدين على الواقع ، وكم يحز في النفس أن يتصدر الخطاب الديني المأزوم المنابر الدينية والإعلامية ، وفي الوقت الذي تشتد فيه الحملة المغرضة على الإسلام من قبل بعض الدوائر المعادية ، فإن الخطاب الديني التقليدي لا يعجز عن تصحيح الصورة السلبية عن الإسلام فحسب ، بل هو مع الأسف الشديد يشارك في تنميط الإسلام وتشويهه ، ثم لا يكتفي بذلك ، بل يعلن النفير على كل المحاولات المخلصة الرامية إلى تصحيح صورة الإسلام ، وإبراز جوانبه الحضارية. وأول مظاهر الاختلال والاعتلال في الخطاب الديني السائد فقدانه للتوازن ، فهو في غالبه خطاب عاطفي ، يقوم على تحريك العواطف ، وتجييش المشاعر ، ولا مكان فيه لصوت العقل ، ومن الطريف أن العقل أصبح سبة عند أصحابه ، فهم يلمزون المخالف لهم بأنه عقلاني ! ولله في خلقه شئون ! ومن فقدان التوازن في الخطاب الديني السائد أنه يكاد يختزل الإسلام في الحدود والعقوبات ، وكأن الإسلام لم يأت إلا ليقتل ويجلد ويرجم ويقطع ويصلب ! وهذه هي الصورة التي تحاول الدوائر الحاقدة على الإسلام تنميط الإسلام بها ، وهي صورة مغلوطة وزائفة ؛ لأنها تتجاهل المقاصد الكلية والأبعاد الحضارية للرسالة الإسلامية كالشورى والحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان ، وتركز على الجانب العقابي وتعطيه أكبر من حجمه ، مع فصله عن سياقه التشريعي والمقاصدي. قضية المرأة هي الأخرى دليل على فقدان التوازن في الخطاب الديني السائد، إذ هو يركز على الحجاب والتحصين والحماية من الوافد الغريب ، وكل ذلك على حساب حقوق المرأة ، فهو يهمش المرأة فكرياً ، ويدعو إلى محاصرتها وإقصائها وتهميش دورها في عمارة الأرض والنهوض بالمجتمع ، وقد خرج علينا في الأيام الماضية أحد دعاة الخطاب الديني التقليدي وهو الداعية السعودي الشيخ يوسف الأحمد بدعوته إلى هدم المسجد الحرام ، وإعادة بنائه من جديد بطريقة تمنع من الاختلاط بين الرجال والنساء ! وهذا الدعوة إلى هدم المسجد الحرام من أجل خرافة الاختلاط التي تلوكها ألسنة دعاة الخطاب الديني التقليدي ، تعد مؤشراً خطيراً جداً على مدى الأزمة الحادة التي يعاني منها الخطاب الديني في أيامنا هذه ، وعلى المآلات التي يمكن أن يؤول إليها. ومن مظاهر عدم التوازن في الخطاب الديني تركيزه على فقه العبادة وإهماله لفقه العمارة ، مع أن القرآن يقرر بوضوح أن الله خلق الإنسان للعبادة ولعمارة الأرض ، ولكن الخطاب الديني القاصر أوجد قطيعة بين فقه العبادة وفقه العمارة ، ولا يخفى حاجة المسلمين إلى فقه العمارة لانتشالهم من واقع التخلف. مظهر آخر من مظاهر أزمة الخطاب الديني يتمثل في غياب فقه المقاصد ، فالخطاب الديني مازال منشغلاً بالجزئيات والفرعيات عن المقاصد ، ومن السهل عليه أن يضحي بالمقاصد الشرعية المعتبرة من أجل قضية جزئية ، أو مسألة فرعية اجتهادية. غياب لغة الحوار وعدم فقه الاختلاف إشكالية أخرى يعاني منها الخطاب الديني التقليدي ، وتتجلى أزمته في عجزه عن فهم سنة الله في الاختلاف والتنوع الفكري والديني والثقافي ، ولذلك فهو بدلاً من أن يستحضر حكمة الله في ذلك الاختلاف والتنوع نراه يضيق ذرعاً بالخلاف وإن كان في مسائل اجتهادية ظنية ، ويشحن الجمهور بثقافة الحقد والعداء والكراهية لكل مخالف . آفة أخرى يعاني منها الخطاب الديني وهي اعتقاد بعض رموزه أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ، ومنشأ هذه الآفة من التعصب والتقليد الأعمى للأسلاف وعدم الإيمان بنسبية المعرفة ، مع أن القرآن الكريم يندد أشد التنديد بذوي العصبية والتقليد الأعمى الذين يرفضون مالا يعرفون ومالا يألفون ، وليس لهم من مستند في رفضهم إلا قولهم : (( إنا وجدنا آباءنا ... )) ! كذلك القرآن يكبح جماح المغرورين بالعلم بتقريره لنسبية المعرفة ، كما في قوله تعالى : (( وفوق كل ذي علم عليم )) وقوله : (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) وقوله : (( وقل رب زدني علماً )). ومن مظاهر التأزم في الخطاب الديني تخندقه وراء المذهبيات ، ولذلك فهو بدلاً من أن ينتصر للإسلام كما في كتاب الله والصحيح الثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينشغل بالانتصار للمذهب ، وفي سبيل ذلك يتم اجترار الصراعات التاريخية ، وإثارة الأحقاد المذهبية. وفي سبيل تجاوز أزمة الخطاب الديني نحن بحاجة ماسة إلى تعظيم فقه المقاصد ، وإلى تجاوز الخطاب الوعظي الإنشائي بخطاب علمي ينمي فينا التفكير ، ويدعونا إلى تحليل الظواهر، واكتشاف الأسباب ، واكتناه الأسرار. ونحن بحاجة إلى مناهج تنمي فينا الإحساس بالجمال ، وتعلمنا أدب الحوار ، وفقه التخاطب ، وفن الجدال بالتي هي أحسن ، وتغرس فينا التسامح والتواضع والاعتراف بالآخر. كذلك نحن بحاجة ماسة إلى تجديد البعد العقلي في الخطاب الديني ، وإلى إقامة التوازن الدقيق بين العقل والعاطفة ، وهذا هو منهج القرآن في خطابه، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وبلاغه.