الرشاد الحكومي لو حدث وإن يكن متأخراً نعتقد أنه لابد أن يتواصل في سبيل إصلاحات عميقة تحقق الغاية منها وهو رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وزيادة مقابلة وسريعة في دخول موظفي الدولة المدنيين والعسكريين بنسبة لا تقل عن 100 % وإعانات اجتماعية مماثلة للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والعجزة.. والتوقف عن إصدار أذون الخزانة، والتوقف عن إنزال العملة الصعبة لبيعها للمرابين.. فإن فعلت فستبدأ دورة اقتصادية شاملة لتنعش مفاصل الاقتصاد الوطني كله. فأولاً مستوى دخول الأفراد عموماً خارج نطاق الدولة سيرتفع أيضاً بشكل مشابه. وسيقوم موظفو القطاع العام والخاص معاً بالتصرف بهذه الزيادات في الدخول على شكل إنفاق على سلع وخدمات ومبانٍ وإصلاحات مختلفة لتحسين مستوى حياتهم، فتتحرك بهذا الإنفاق الأيدي العاملة جميعها، وتنشط الصناعة والتجارة وحركة البناء، وتبدأ دورة شاملة للاقتصاد الوطني ليحقق ناتجاً محلياً أعلى بدلاً من ذهاب هذا الدخل إلى الخارج لكي تنهض به اقتصاديات أوروبا والغرب. وستبدأ إنجاز مشاريع جديدة للبنى التحتية اللازمة للاستثمارات بشكل متوازن. وستنتهي الإعفاءات الضريبية والجمركية التي تصاحب هذه العملية الكبيرة من الفساد، حيث ارتبطت أكثر هذه الإعفاءات بالمشتقات النفطية منذ مساومات عام 2005 بين الحكومة ومجلس النواب. فهل بلغت حكومتنا الرشد حقاً؟!. *** يبدو أن الحكومة تقترب الآن أكثر من أي وقت مضى من المعالجة الصحيحة للقضايا الاقتصادية الملحة كلما ابتعد معارضوها عن هذه القضايا. المعارضون اختاروا أن يرفعوا عقيرتهم بالصراخ كلما رأوا مناسبة صغيرة لذلك؛ لكنهم - وللأسف - لم يفكروا بتقديم مشروع حلول ناجعة لمعالجة قضايا الناس.. وإلا لكانوا محمودين عند الله والناس، ولاستطاعوا أن يحركوا الجماهير تحت إطار المطالب التي تمس حياتهم وما أكثرها. *** الحكومة ظلت تتهيب القيام بخطوات جذرية لمعالجة مشكلات الاقتصاد، وظلت تراوح مكانها في عالم المفاوضات، أو بالأحرى المناكفات السياسية مع المشترك التي لم ولن توصل إلى نتيجة ينتفع منها الناس أو تخرج البلاد من أزماتها الكثيرة. الآن فقط نحس أن الحكومة واجهت التحدي، وأحسّت بمسئوليتها التي لن يشاطرها فيها غيرها، وبدأت بقراءة الوضع الاقتصادي قراءة صحيحة تجعلها قادرة على التمييز بين ما يقبل التأجيل والتفاوض مع المعارضين وما لا يقبل التأجيل، ولن يتحمل معها المسئولية فيه أحد من الناس؛ بل ستتحمل هي وحدها نتائجها الكارثية كجماعة وكأفراد إن فشلت في التعامل معها تعاملاً صحيحاً. *** نفهم هذا التوجه من خلال الدكتور علي مجور، رئيس مجلس الوزراء الذي أشار مؤخراً إلى أن الحكومة تدفع دعماً للمشتقات النفطية نحو 370 مليار ريال، وهذا المبلغ لو تم تحويله إلى دخول للأفراد لكان بحد ذاته انقلاباً في مسارنا الاقتصادي كله، وبداية حقيقية للحلول النهائية لأزماتنا ومشكلاتنا المستعصية وعلامة على بلوغ رشد الحكومة. *** هذا المبلغ وحده كافٍ للتعبير عن حجم الكارثة المالية والفساد الإداري الذي يجعل نحو 80 % منه يذهب إلى جيوب المفسدين في الأرض من لصوص المال العام، وهؤلاء بدورهم يقومون «بتحويل هذه المبالغ الخرافية إلى عملات صعبة» وتهريبها إلى الخارج وإيداعها في بنوك أجنبية، وهم في هذه الحالة يقومون باستنزاف موارد البلاد من العملة الصعبة من سوقنا المحلية لكي تتحول إلى أموال مكنوزة في الخارج أو استثمارات في بلاد العم السام. *** البنك المركزي بعلم أو بغير علم كان يساعد هذه الفئة الظالمة من خلال أولاً أذون وسندات الخزانة التي يقوم هؤلاء اللصوص بشرائها وكسب المليارات كفوائد منها من خلال إيداعات محدودة ولفترات محدودة والاستفادة من سعر الفائدة الأعلى في المنطقة كلها إن لم يكن في العالم كما أشار آخر تقرير للبنك الدولي للربع الأول من هذا العام 2010م. ثم بعد هذه العملية التي تعتبر مظهراً آخر من مظاهر الفساد الكبير يقوم البنك المركزي بإنزال دفعات متتالية من العملة الصعبة للسوق بحجة المحافظة على مستوى سعر الدولار عند حدود معينة فتقع هذه الدفعات في أيادي هذه الفئة لكي يقوموا بامتصاصها من السوق وتهرّب إلى الخارج خلال ساعات ولا تترك أثراً، وشيئاً فشيئاً تفاقمت مشاكلنا النقدية والاقتصادية لتحدث الكارثة. مرة أخرى هل بلغت حكومتنا الرشد، وهل لديها الجرأة لتقطع أيدي هؤلاء اللصوص وتنصف الشعب والدولة منهم؟!.