غرّد بأفق الروح أفق الخلود واترك لنا الوحل في ذا الوجود فجعت الأوساط الفكرية والثقافية بوفاة الفيلسوف العربي المسلم والمفكر الناقد محمد عابد الجابري أما بالنسبة لي فلقد نزل خبر وفاته على مشاعري نزول الصاعقة ,حيث فقدت صوابي ساعة كاملة.. ثم عدت ,ولكن إلى المستنقع العربي الموبوء والذي بدوره شد جسدي وثاق إليه.. غير أن روحي تمردت وافلتت من جسدي رافضة وحل هذا الوجود محلّقة في مشارف الخلود ,مسرعة أقصى مايمكن لتلحق بالروح الطاهرة لفقيدنا .. لقد وصلت وهي إلى مشارف الخلود منادية عقلي ومحرضة تفكيري قائلة: ما الذي دهاكما؟ ألم تنصبغا قرابة عقد ونصف بفكر الفقيد وروعته اسلوبه وقوة نقده؟ ولأن روعة روحي وهي على مشارف خلود روح الفقيد هذه الروعة البهيجة دفعت روحي إلى الطمع ولكن هيهات فصدحت روحي مخاطبة روح الفقيد (غرد بأفق الروح أفق الخلود...الخ) البيت المذكور اعلاه ثم عادت روحي لتلهمني عن قرب قائلة: عليك القيام بتطواف سريع يلخص مشوار حياة الفقيد في نقاط بارزة ,ولينتهي تطوافك بذكر موجز تشير من خلاله بمدى تأثرك بفكر الفقيد.. الحقيقة أني استحسنت فكرة روحي رغم انشداد جسدي إلى مستنقع الواقع وأوحاله.. لكني عزمت على تنفيذ الهاماتي الروحية اجلالاً وتقديراً لفقيد الأمة.. فأقول: أولاً: من خلال فهمي لفكر الراحل وجدت أنه مسكون بفكرة هامة طالما تحدث عنها بصيغ مختلفة وهذه الفكرة هي ( إنسانية الإنسان) لقد تناول هذا المفهوم كثيراً بمعانٍ والفاظ مختلفة.. وفي نظري لعل هاجسه المسكون بهذه القيمة الإنسانية من وقت مبكر في مشواره الفكري ,كان وراء دخوله عضواً في الاتحاد الاشتراكي المغربي ويصبح أحد أعضاء المكتب السياسي للاتحاد.. ولأن الزخم الفكري للاشتراكية حينها كان يستهوي افئدة الجميع - المثقفين غالباً فإن الجابري لم يقف عند الفكر الاشتراكي فقط بل قرأ الحداثة الغربية ونقدها سياسياً الصراع الايديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية غير أنه استفاد من الحداثة الغربية في توسيع مداركه العقلية مقارناً - بحكم تخصصه في الاجتماع السياسي - بين الثقافة الغربية والثقافة العربية والإسلامية.. ورأينا باكورة كتاباته في نقد الفكر الإسلامي في سلسلة نقد العقل العربي الغريب أن البعض اعترض على الجابري.. وكان الاعتراضات شكلية بحتة وبعضها كان من منظور جهوي جغرافي وكان اقوى اعتراض أن الجابري أيد المستشرقين بأن العقل العربي يختلف على الغربي والصواب في نظري أن الجابري اراد بالعقل العربي الفكر الاجتراري الغارق في الرواية العائش في مثالية خادعة, لكن الايدلوجيا الناقدة للجابري لم تكن موفقة لاعند (طرابيشي وهشام شرابي ولاطه عبدالرحمن الذي عرف في المثالية وعند الحرفية فضاعت المنهجية فتحول فكره إلى سلفي تبريري ليس للكليات وإنما للجزئيات فكادت مدرسة (طه) أن تضيع.. ثانياً : خلال شبابه اخرج كتاباً حول بعض الإشكاليات في الفكر الإسلامي المعاصر وهنا تكلم عن ثلاث قضايا.. فأخطأه الصواب في نقطتين رغم تعليله الاجتماعي ونقطة ربما كان فيها على صواب فالقضيتان الأوليان قطع يد السارق ,والأخرى الزكاة في نسبتها 2.5 % فقال عن الأولى : إن الرسول قطع اليد لأنه لم يكن هناك سجن حسب البيئة العربية. والثانية قال عنها: أن هذه النسبة غير كافية لأن الفقراء كثروا في هذا العصر ونسي أن المال هو أكثر .. أما عن القضية الثالثة وهي فكرة ميراث المرأة فقد اشار بالموقف الإسلامي ازاء المرأة وانصافه وأن اعطاء الإسلام هذا النصيب لم يكن هو العطاء النهائي وربما يمكن أن تتساوى مع الرجل بشرط التغيير في نسبة القيم الاجتماعية كما هو الحال في الغرب ,حيث أصبحت المرأة في الغرب تتحمل جزءاً من الايجار والانفاق.. معللاً ان موضوع المواريث هو من القضايا -المعاملات- بحيث ممكن أن نفكر فيه ولا حرج قلت: إن هذه الفكرة سبقه إليها الإمام (علي الفاسي) فقيه المقاصد المغربي حيث قال: وتغيير هذا النسبة القيمة يحتاج إلى 200 سنة تقريباً. ثالثاً : في كتاباته حول الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان نجد الجابري رحمه الله قد أجادوأفاد ,حيث ربط حقوق الإنسان بمقاصد الشريعة ,وهذا الربط الرائع كان كاتب هذه السطور قد حاول وضع خطة.. حول ذات الموضوع فوجدته قد سبق ولم يبق سوى جمع الاستدلالات الجزئية وتنزيل اللغة إلى مستوى اقرب إلى فهم القارىء العادي.. وقد أشار ضمنياً إلى أن قطع يد السارق جاء ليحمي الحقوق.. رابعاً: اجاد في نظري في كتاباته حول نقد العقل العربي ,حيث قدم ثلاثية رائعة هي العقيدة في عهد النبي والراشدي عقيدة ودولة وبعد ذلك عقيدة قبيلة غنيمة ثم قبيلة غنيمة وهنا يكون وقد وضع الإصبع على الجرح من وجهة نظري فالصراع طال تاريخنا حول الأخيرة (القبيلة والغنيمة).. خامساً: ومن روائع ماقدمه في كتاباته الأخيرة مايلي: حيث قال رحمه الله: لايوجد أي مبرر لتواجد العلمانية ولا الليبرالية ولا الحداثة ولا القومية ولاغير ذلك من الأفكار الدخيلة الوافدة على الوطن العربي, لأنه لايوجد في الوطن العربي لا من العقيدة ولا من السياسة ولا من الثقافة ولا من الاجتماع مايدعو لإسقاط هذه المفاهيم على واقعنا العربي ,وحول الاقتباس من الآخر قال كلاماً هو غاية في الروعة ,كونه صادر عن مثل هذه القمة السامقة ,حيث قال رحمه الله: يجب علينا عند الاقتباس من الآخر أولاً وقبل كل شيئ أن نتشبع بالثقافة العربية في كل اتجاه.. وما لم نفعل فسيتحول الاقتباس إلى مذلة اقدام تقليد اعمى مصيره الفشل .. سادساً..حول القبيلة قال: إن الرسول لم يهدم القبيلة وإنما اختزلها بذكاء واحسن توظيفها قلت وقد صدق الجابري فالتكوينات القبلية في ظل الإدارة الناجحة فن التوظيف - كانت احدى وسائل التنظيم الإداري في الجيش والاجتماع. سابعاً: وقف الجابري عند إخراج تفسير للقرآن وفي نظري أجاد في كتابه الأول المدخل في تقديم تصور رائع لإعادة فهم القرآن حسب النزول أعني أنه يشير إلى الواقع المعيشي للعرب والمسلمين هو أقرب إلى العهد المكي - استضعاف - قلت:وهذا هو عين فقه المقاصد طبعاً مع مراعاة بوادر النهضة الفكرية المعاصرة والمراجعات الكثيرة ولعل النقد الذي هو اقرب إلى الشغب من بعض النقاد ك (طه) عبدالرحمن , أو من بعض السلفيين أجد أنه قد اثر على مسار تفكير الجابري وذلك في قضية حديث الأحاديث نجده قد مال إلى اعتماد الآحاد في أخطر القضايا وذلك في بعض الآيات التي حذفت من القرآن وضاعت ويبدو لي أنه اراد من الاستشهاد بها فقط لفت النظر إلى هذا الهراء ,ولكنه قدمها مغلفة وماكان ينبغي له.. ثامناً: قدم فهماً عن ابن تيمية وأن شيخ المقاصد التطبيقية افضل من الشاطبي وإلى جانب هذا نجده قد غمز (الغزالي أبو حامد) وابن سينا ونقد الفكر الشيعي والصوفي بقوة وانهما يحملان نفساً كنسياً بابوياً ,وهو هنا صادق في نظري بامتياز عدا هوامش صوفية استثنائية ومثلها في الشيعة. تأثري بالجابري رحمه الله 1 - كسر الحاجز الذي كان يمثل عقبة كؤود أمام فهمي للتاريخ السياسي العربي الإسلامي.. وكان أول كتاب قرأته في هذا الصدد (المثقفون في الحضارة العربية) محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد حيث بلور افكاره حول الطغيان المستنير الذي يجيد فن التوظيف الديني لخدمة السياسة ويستغل العامة والدهما ويدغدغ عواطفهم والعكس كيف تسكت الأمة عند ظهور عصا الاستبداد ويتحول المثقف إلى جوقة المطبلين للانظمة. 2 - كسر حاجزاً آخر هو ما أشرت إليه آنفاً (القبيلة، الغنيمة) وبعد تأمل في الصراع التاريخي حتى اللحظة وجدته قد توفق في الوقوف على المرض الذي دوخ أمتنا خلال 1400 عام انها الاثرة وإقصاء الآخر. 3 - جذبني كثيراً في كتابي (العقل السياسي العربي) و(العقل الاخلاقي العربي) حيث وجدته عمل على تفكيك اللا مفكر فيه - المقدس المصطنع كاشفاً على الدور الخطير للثقافة الفارسية في الفكر السياسي العربي ليصل في النهاية إلى أن الحل هو دفن جدنا المزور (اردشير).. 4 - كما جذبني في كتابه العقل الاخلاقي في تأصيله للاخلاق وأنها سياسة ليصل في النهاية إلى الاشادة بالإمام العز بن عبدالسلام كونه أول من كتب بصورة واضحة وجلية أن الإسلام هو مصلحة الأنام وان الأمة بحاجة لمن يحيي هذا الأمر ويبلوره بصورة اكثر وبلغة معاصرة ملامسة لهموم الواقع المعيش... 5 - جذبني حديثه حول العقل العربي الغارق في جزئيات الرواية الاجترار للتاريخ حيث صار هذا الاجترار ليس للنص وياليته كان عند النص وإنما اجترار الفهم والفعل التاريخي حتى تحول الفعل التاريخي إلى تشريع مقدس. 6 - جذبني في تناوله القضايا الكبرى مؤكداً أن قضية القضايا هي التحرر من الاجترار والفهم المباشر للنص وفقاً للمنهج العلمي الرصين وبعض الجزئيات نؤجلها أو نعتبرها كخصوصيات ثقافية شأننا فيها شأن سائر المجتمعات التي نهضت مع تمسكها ببعض خصوصياتها وهناك أمور أخرى لامجال لذكرها.. رحمة الله على فقيد الفكر العربي الدكتور الجابري ورفع درجته كما حاول أن يرفع وتيرة النقد العقلي العربي ونسأل الله أن يحسن إليه كما احسن إلى الثقافة العربية.