كنت في دعوة عند قوم وبيدي كالعادة كتاب لا يفارقني وكان هذه المرة جزءاً من قصة الحضارة لديورانت، سألني رجل: ما هذا الذي بيدك قلت: شيء لا يهمك كثيرا قال: وما محتواه قلت (سوالف) وحكايات قال بها الأولون قال هو في التاريخ قلت نعم قال لا إنه علم مفيد.. عرفت أن الرجل واع. يقول ابن خلدون عن علم التاريخ في مقدمته إن له ظاهراً وباطنا فأما ظاهره فلا يزيد عن أخبار وقصص تغص الأندية للتسلي بأخبارها وتتدخل المبالغات والزيادات في إضافة البهار والمقبلات عليها. ويرتع صاحبها في حقول الكذب فيتعذر على المنتقد والمتعقب تصيد الأخطاء فيختلط الوهم بالحقيقة والصدق بالكذب، وأما باطنه (فهو تعليل للكائنات ومباديها دقيق) هكذا جاء في تعبير ابن خلدون، وهو يقصد القانون التاريخي أو ما سماه القرآن سنة الله في الذين خلوا من قبل. وكنت يوماً في زيارة رجل فاضل يدرس في الجامعة فضحك من قولي أن علم التاريخ يوثق به ويعول عليه قال: لو أردنا أن نخضع أخباره لعلم الجرح والتعديل لم يبق منه شيء، ثم زاد من قولي ضحكاً حتى كاد أن يستلقي على قفاه عندما شرحت له قصة السلاح النووي ورحلة القوة في التاريخ وهو الذي كتبت عنه كتابا كاملاً بعنوان (جدلية القوة والفكر والتاريخ) وختمت فكرتي أن عصر الحروب انتهى، ضحك مني مرتين أن الحرب نظام انتهى وقته ثم هذه الأخبار الدقيقة التفصيلية من التاريخ والانثروبولوجيا أي علم الإنسان قال هل تصدق بهذه المعلومات، وكنت قبل ثلاث سنوات في عمان عندما استضافتني مؤسسة (سجى) للإنتاج الفني وشاركت في حلقات للحوار عن العنف ومشاكل الشباب فجلست بالصدفة إلى رجل يقدم اليوم حلقات في إحدى المحطات الفضائية قالك أنت من ينادي بالسلام بين البشر قلت نعم فضحك على براءتي وسذاجتي في فهم الأمور قال: كل التاريخ والثورات بني على الحرب والدم. أصغيت له وآخر معه لمدة 35 دقيقة فلما انتهى من كلامه بدون أن أقاطعه بحرف واحد حتى ظن صاحبي أنه أقنعني أن أغير وجهة نظري وأن أعدل مساري بعد أن تعبت في نحته ربع قرن من الزمن. قلت له إن أعظم انقلاب اجتماعي أحدثه محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يقتل فيه سوى امرأة واحدة صبراً، وكنت أسمع لك بشغف وتمنيت أن أسمع كلاماً جديداً وفي جعبتي أسلحة فكرية يمكن أن أزودك بها للتسلح ضد أفكاري ولكن لماذا أعطيك إياها؟. والسؤال الآن لماذا كان علم التاريخ مهماً ؟ إنه باختصار تجربة البشر على نحو جماعي يمكن الاستفادة منها واختصار الجهد والوقت والمعاناة فهذا أهم درس في التاريخ، بكلمة ثانية الطفل لا يمد يده إلى النار لأنه عرف أنها تحرق، والإنسان لا يلقي نفسه من شاهق مثل النملة، لأنه يدرك أن سيتحطم، والمجتمع الإنساني لا يشجع على الكذب لأنه ضار ولنتصور أن أي شركة طيران لا تصدق كلام الناس بالحجز على الخطوط هل يمكن أن تطير طائرة، وهكذا فالقيم والعادات والدين والتجارب كلها أصبحت في مستودع ضخم وفي ذاكرة هائلة تكبر كل يوم اسمها ذاكرة التاريخ ومن لا يعرف التاريخ كمن لا ذاكرة له. لنتصور أن أحدنا ينسى أين وضع نظارته أو مفتاح مكتبه وسيارته أو حتى أين مكان عمله أو بيته بل وحتى زوجته وأولاده فإذا اجتمع بهم بعد نصف ساعة بدأ في بناء علاقة جديدة معهم. إن الذاكرة أساسية عندنا من أجل البناء فوقها حتى نحدد مكاننا في الوجود وحتى نحكم التصرف. وإذا كان هذا الكلام صحيحاً على المستوى الفردي فهو لا يقل أهمية في المستوى الجماعي ولذلك اعتنى القرآن بأخبار الأولين جداً ليس من أجل التسلية بل من أجل العبرة فعندما يقول دمر الله عليهم يكرر وللكافرين أمثالها، وعندما يذكر السير في الأرض يعيد أولم تكن لهم قلوب يفقهون بها أو أعين يبصرون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ومن هنا يعكف اليوم خبراء التاريخ على دراسة تجربة الحروب الصليبية لمقارنتها مع الصراع العربي الإسرائيلي اليوم، وفي ضوء هذا الإلحاح العقلي والقرآني نفاجأ بمن يضحك علينا فماذا نقول لهم.