من خلال عرضنا لفكرة الدليل الخاص بتنمية القراءة والمفصل على مقاسات أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي، لفت نظرنا أن المثالين المأخوذين متباينان سياسياً حد التفارق التام، وكان المثال الأول هو الكولومبي المُجيّر على بيئة رأسمالية متوحشة، والمقابل لها النموذج الكوبي المجير على بيئة اشتراكية متكلسة، فما الذي جعل هاذين النموذجين يتماثلان في القدرة على تطبيق مرئيات الدليل الوطني لتنمية القراءة؟ أعتقد يقيناً أن سر القدرة الكولومبية يكمن في انتهاج نظام الحكم المحلي كامل الصلاحيات، وهو ما سمح لكولومبيا بأن تسجل مؤشراً إيجابياً في الانعتاق المتدرج من الفساد، ومافيا المخدرات والسلاح، واستتباعاً الفقر الأسود بالترافق مع الغني الفاجر، مما هو مشهود في الأقاليم والمدن الكبرى وخاصة العاصمة «بوغوتا» التي تحولت خلال عقد من الزمن إلى مدينة عصرية مموسقة بالاخضرار والمعاهد والمدارس والأسواق، بدلاً عن حالتها السابقة كمدينة للعشوائيات والمخدرات واللصوص والمجرمين، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الأمر على بيئة الثقافة العامة وأن يسمح بتطبيق فعال لمرئيات توسيع ثقافة القراءة بأشكالها وأنماطها المختلفة مما ينعكس إيجاباً على أفئدة الناس وسلوكياتهم. وقديماً قال الفيلسوف كارل ماركس: إن الوعي الاجتماعي تابع للوجود الاجتماعي، وإذا تخلّص الناس من الفقر والجوع والخوف أصبحوا قادرين على الإبداع واستعادت السويّة الآدمية. بالمقابل يستوعب النظام الكوبي القائم على مركزية الدولة الشمولية الرائية لأمر العباد والبلاد.. يستوعب هذا النظام ضرورة الثقافة العامة، ويُيسر لها السبل بالرغم من عيوبه الهيكلية المرتبطة ببيروقراطية النافذة الواحدة، والتغريد خارج سرب العولمة الموضوعية المسحوبة على وحشية رأسمالية القرن الثامن عشر قبل العشرين، وعند هذه النقطة تلتقي كولومبيا بكوبا، وقد أثبتت الصين عملياً إمكانية التقاء المتناقضات على قاعدة الحكمة، تماماً كما قال ذات لحظة تاريخية بعيدة الفيلسوف المُسلم ابن رشد عندما اعتبر الحكمة والشريعة في لقاء تام إذا اتحدا في الهدف لتحقيق الفضيلة، وللحديث حلقة رابعة وأخيرة.