أحدث قيام الجمهورية اليمنية عام 1990م على مبدأ التعددية السياسية والحزبية انفتاحاً واسعاً على الحريات عامة وحرية الرأي والتعبير تحديداً حيث غدت الحريات الإعلامية حقيقة مجسدة في الواقع بالدستور وقانون الصحافة والمطبوعات وتشريعات الدولة والمؤسسات.. جسدت العلاقة بين المجالين الحزبي والإعلامي ترابطاً عضوياً بين المجالين، على الأقل من حيث الكثرة والفوضى، ثم من حيث التراجع والتنظيم، فبينما تجاوز عدد الأحزاب المعلن عن تشكيلها 43 مسمى تقريباً. فإن عدد الصحف والمجلات قد تجاوز المائتين في السنوات الأولى من التاريخ السياسي للجمهورية اليمنية. وعند قراءة معطيات التجربة التاريخية للحريات الإعلامية في الجمهورية اليمنية خلال عقدين، يمكن استنتاج عدد من السمات التي طبعت هذه التجربة، أهمها ما يلي: 1 - اقتصار العمل الإعلامي على الصحف التي تنوعت بين رسمية وحزبية وأهلية دون شمول هذا التنوع وسائل الإعلام المسموع والمرئي، وإن كانت التطور التقني قدم الأفراد والهيئات من دخول مجال النشر الاليكتروني عبر الشبكة العنكبوتية «الانترنت» من خلال المواقع والصحف الالكترونية . 2 - هيمنة الانتماء السياسي على المجال الإعلامي، حيث ظلت الصحف اليمنية في أغلبها تابعة للهيئات الحزبية أو معبرة عنها ، تحت ضغط الحاجة إلى التمويل. 3 - عدم انتظام ، أو توقف صدور غالبية الصحف الأهلية لأسباب مالية ناجمة عن شحة الحصول على الإعلان ومحدودية التوزيع التي تقف وراءها أسباب خارجة عن إرادة الصحف نفسها. على ضوء هذه السمات البارزة لواقع تجربة الحريات الإعلامية في تاريخ الجمهورية اليمنية، سنحاول معاينة الواقع الراهن، واستشراف الآفاق الممكنة والمحتملة في مستقبل الإعلام اليمني، وذلك بأسلوب من التعميم والتجريد يكفي للبيان بإيجاز سوف نعرضه مرتباً في الفقرات الآتية: أولاً: موجز تاريخ الحريات الإعلامية في الجمهورية اليمنية: يتضمن تاريخ الحريات الإعلامية في الجمهورية اليمنية جوانب عدة أهمها: الجانب التشريعي، والجانب العملي، حيث يعنى الأول بالتنظيم القانوني لممارسة هذه الحريات ، بينما يتعلق الثاني بهذه الممارسة عملياً في الواقع. 1 - الجانب التشريعي: يمكن تصنيف الحريات الإعلامية في التشريعات اليمنية على نحو مباشر وغير مباشر من خلال الآتي: أ) الدستور: يعتبر الدستور الأساس القانوني الذي تنطلق منه الحريات الإعلامية بما نص عليه صراحة في أكثر من مادة، فقد نصت المادة السادسة على التزام الدولة بميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان اللذان ينصان على حق كل شخص في حرية الرأي والتعبير والحصول على المعلومات. ونصت المادة (41) على حق المواطن في الاسهام بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكفل الدولة حرية الفكر والاعراب عن الرأي بالقول والكتابة والتصوير في حدود القانون. ب- القانون: ويشمل قانون الصحافة والمطبوعات رقم (25) لسنة 1990م ولائحتيه التنفيذية والمالية، وقانون الأحزاب والتنظيمات السياسية رقم (66) لسنة 1991م ولائحته، بالإضافة إلى القرارات الجمهورية بشأن إعادة تنظيم المؤسسات الإعلامية وكذلك قانون العقوبات الذي نظم الحريات الإعلامية من زاوية عقابية حيث جرم الأفعال التي ترتكب عن طريق الإعلام. ومثلت هذه التشريعات فاتحة تحول تاريخي في المجال الإعلامي وحرياته التي كان من أهمها رفع الرقابة المسبقة على الصحف، وحق الإصدار وحق الحصول على المعلومات، وحرية التعبير عن الرأي وقد تعززت هذه الحريات والحقوق وضمان ممارستها من خلال التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطات ووجود النظام النيابي الديمقراطي والتعددية السياسية واستقلال القضاء. ج- القصور التشريعي: ظل الإطار القانوني للحريات الإعلامية مقصوراً عمل الإعلام المقروء دون الإعلام المسموع والمرئي ، ثم الإليكتروني، وفي العام العشرين لقيام الجمهورية اليمنية ، تقدمت الحكومة بمشروع قانون ينظم عمل الاعلام ويشمل وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية والفضائية والالكترونية الا ان هذا المشروع اثار جدلاً سياسياً واسعاً بين مؤيديه ورافضيه سيؤدي حتماً الى تأخر التنظيم القانوني لعمل الاعلام. اضافة الى هذا القصور التشريعي، فإن التقدم الذي أنجزه المشَّرع اليمني في التشريعات المشار اليها سابقاً جاءت دون المستوى التاريخي للحدث الوحدوي من جهة والمتغيرات العالمية وتطوراتها التقنية من جهة اخرى، الامر الذي يستدعي اشارة الى اهم العوائق القانونية لحرية الاعلام في الجمهورية اليمنية وهي: 1 -عدم وضوح حدود حرية التعبير وعدم النص على حرية الاعتقاد والاختيار. 2 - التوسع في دائرة التجريم ومحظورات النشر. 3 - الاسراف في العقوبات السالبة للحرية. 4 -غياب الدور الفاعل لنقابة الصحفين. 5 - معاقبة رئيس التحرير كفاعل اصلي الى جانب الكاتب وفقاً لمبدأ المسئولية التضامنية التي فرضها القانون. 6 - تنفيذ العقوبات السالبة للحرية بطريقة لا تتناسب في احوال كثيرة مع حجم المخالفة المرتكبة. هذا الموجز للجانب التشريعي في تاريخ الحريات الإعلامية يقتضي تجديداً كاملاً في البنية التشريعية للإعلام اليمني تتصف بالشمول، وتعبر عن الطموح الوطني لمساحات اوسع من حرية الصحافة وحرية التعبير تتلاءم والشوط الذي قطعته الجمهورية اليمنية في مسارها الديمقراطي 2 - الجانب العملي: يقدر الاصدار العام للصحف ب409 مطبوعات ، لا يزال 200 منها مستمراً بينما توقف 185 منها ، بينما بلغ عدد الصحف التي حصلت على ترخيص ولم تصدر 23 صحيفة. استمرت هيمنة الحكومة على الإعلام المسموع والمرئي في حين تمكنت الأحزاب والأفراد من دخول مجال النشر الالكتروني بعد الصحف، فيما لا يزال التشريع القانوني محصوراًعلى الصحف والمطبوعات. اجمالاً، يمكن ايجاز أهم سمات العمل الإعلامي في ظل الحريات المتاحة للإعلام بالجمهورية اليمنية بالآتي: 1 - تخلف الصحف اليمنية بسبب غياب المؤسسة الناظمة للعمل الصحفي وتأخرها عن مواكبة ثورة المعلومات وثورة التقدم التقني . 2 - الهيمنة السياسية على الصحف الرسمية والحزبية. 3 - غياب المهنية والموضوعية. 4 - ضعف الإمكانات المالية المادية . بالإضافة إلى أن الإعلام الاليكتروني يواجه عقبات إضافية منها غياب الغطاء الشرعي وشحة الموارد والصعوبات الفنية وقلة الكوادر المؤهلة. ومع تنوع الإعلام المقروء والإلكتروني بين ثلاث فئات هي: الصحف الرسمية والصحف الحزبية، والصحف الأهلية ، الا ان اسهام هذا التنوع في مجال تعزيز الحريات الإعلامية ظل محدوداً وضعيفاً . لأسباب أهمها غلبة الانتماء السياسي بصورة جعلت المضمون الإعلامي مقصوراً على النقد والتفسير. إن شحة الموارد وضعف الإمكانيات وغلبة الطابع الشخصي للصحف الأهلية، جعلت مساحة حرية الرأي وحق الحصول على المعلومات فيها محدودة، في وقت استمرت فيه الهيمنة السياسية على الإعلام الحزبي بصورة كاملة ومطلقة. ثانياً: واقع الحريات الإعلامية وآفاقها: تكمن أهمية الإعلام في كونه الأداة المجسدة للترابط العضوي بين فجوتي الحرية والمعرفة في الواقع الراهن للتنمية الإنسانية في الوطن العربي، فالإعلام يحمل المعرفة من خلال دوره في نشر المعلومة وتنظيم تدفقها في مناخ من الحرية المطلقة من قيود المنع والحظر. وفي الواقع اليمني، تقتضي التنمية الإنسانية سد فجواتها المتنامية في مجالي الحرية والمعرفة، بتطوير الإعلام وتفعيل دوره في المجتمع، من خلال تنظيم قانوين يحقق أهداف العمل الإعلامي كما حددتها السياسة الإعلامية في استراتيجيته الحكومية ومن هذه الأهداف تعميق الإيمان بالحرية كهبة عظيمة الانسان والعمل على رعاية وحماية مبدأ حرية التعبير واحترام الرأي والرأي الآخر. ولما كانت الحريات الإعلامية تعني حق الحصول على المعلومات ونقلها وتبادلها، والحق في نشر الأفكار والآراء وتبادلها دون قيود، فإن دور الإعلام يصبح محورياً وهاماً في التنمية للإنسانية: سياسياً واقتصادياً ، وبعبارة اخرى في تنمية التجربة الديمقراطية وتنمية الاقتصاد الوطني. إن واقع الإعلام اليمني يبشر بمستقبل واعد في اتجاهات عديدة إذا توفرت له الإرادة الصادقة والمسئولية المخلصة حتى يتحول الإعلام إلى شريك حقيقي في البناء الوطني والدفع بمسيرته الديمقراطية صوب النماء والتطور وهذه مهمة ليست بالأمر الهين، اذ يتحمل مسئوليتها القائمون على الإعلام في الالحكومة والأحزاب السياسية والمجتمع. لقد انهارت سلطة المنع والحظر وسقطت سيطرة التحكم والاحتكار من خلال التطورات المتجددة في المجال العلمي وتقنياته الخاصة بالإعلام ووسائله ومضمونه، فلم تعد هناك حواجز أو حدود تفصل بين دول العالم ، وقادرة على حجب الإعلام والتواصل والثورة المعلوماتية. وفي عصر كهذا ، فإن التخلف الإعلامي السائد في الوطن العربي يفرض على اليمن تطوير انجازها التاريخي بالوحدة والديمقراطية في اتجاه تعزيز وتوسيع الحريات الإعلامية، وفي هذا الاتجاه، ينبغي التأكيد على إبعاد المسألة الإعلامية عن دائرة المهاترات السياسية المعروفة في الخطاب الإعلامي المتبادل بين الاحزاب سواءً في السلطة أو المعارضة، لأن الطرفين يتوحدان ، ذاتاً وموضوعاً، على فرض الهيمنة السياسية المطلقة على الإعلام وتجريده حتى من المهنية وفنونها. لا حاجة لنا لكشف ما تعرفونه عن هيمنة الانتماء السياسي على الاعلام التابع للحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، فقد جعلت هذه الهيمنة من الخطاب الاعلامي مقتصراً على النقد والتفسير نظراً للاتهامات المتبادلة بين طرفي هذا الخطاب حيث يعمد كل طرف الى نقد الآخر وبأسلوب قد يصل حد التسفيه والتخوين. وفي الواقع الراهن للحريات الإعلامية بالجمهورية اليمنية لا تزال لغة التفكير تحاصر التفكير وحرية التعبير باستخدام الإسلام استخداماً كهنوتياً لا يقف عند حدود أصول الدين وكلياته بل يتعداها الى المسائل الخلافية، بحيث يُكَفر بالرأي الفقهي المخالف لرأي شيخ او فئة في القضايا الاجتهادية. إذاً تتضافر عوامل متعددة لإعاقة التوسع في مساحات الحريات الإعلامية، بأساليب مختلفة تمارسها القوى السياسية في السلطة والمعارضة والقوى التقليدية باسم الدين كما يساهم الإعلاميون في إعاقة هذه الحريات من خلال إخلالهم بأخلاقيات المهنة وعدم التزامهم بقواعدها الفنية في التحرير والنشر. وعلى ضوء ما سبق نخلص الى تأكيد الدعوة الى تطوير الإعلام وتوسيع مساحات حرياته وشمولها كل وسائله التي لا تزال خارج إطار التنظيم القانوني لعملها ، ولعل ضرورات التنمية تفرض الاستجابة السريعة لهذه الدعوه من قبل السلطة ومن قبل الأحزاب والمجتمع. دعونا نبدأ العمل بهذا من إيمان صادق والتزام كامل بأن وظيفة الإعلام هي الإعلام وليست التعبئة، وهذا يعني تحول الإعلام من خطاب الموقف والرأي إلى المعلوماتية والتبادل المعلوماتي. [email protected]