في عام 1975 م كان السياسي هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا يومها في مفاوضات شاقة مع الإسرائيليين حول إعادة سيناء إلى المصريين المحتلة منذ عام 1967م. وكان الوقت هو بعد حرب عام 1973 م وقيامه بما سمي يومها رحلات المكوك بين الدولتين ولكن كيسنجر وهو اليهودي أصلاً شعر أن بني قومه اليهود لا يفهمون أو يتجاهلون حقائق السياسة العالمية. فإن جاءهم من اليمين هربوا إلى الشمال وكما يقول المثل (إن قال لهم تيس قالوا احلبوه). وهم يريدون أن يفعلوا ما فعل جحا مع قطعة الكعك يريد أن يأكلها ويحافظ عليها. أي أنهم يريدون سلاماً مع جيرانهم العرب ويحافظوا على الأراضي المحتلة. ومن كان هذا همه أضاع الاثنتين سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون، ولكنها مرحلة سيئة في تاريخ العرب، ولن تبقى إلى يوم القيامة، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فهذا قانون تاريخي. واليوم هناك دراسات تفصيلية عن الحملات الصليبية من أجل المقارنة التاريخية عن معنى الصراع الدائر الحالي. ولم يكن من فراغ قصة البقرة في القرآن؛ فكلما جاءت الرواية عن ذبح أي بقرة اشتدوا في تعريفات تفصيلية أوسع تدخلهم إلى حرج أكبر. فلما رأى ذلك كيسنجر أوقف المحادثات ذات يوم وقال لهم أريد أن أقوم بجولة سياحية داخل إسرائيل نغير بها الأجواء حتى نستعيد نشاطنا ونتابع المداولات. قالوا له: أي مكان تريد أن تراه؟ قال لهم قلعة (الماسادا). وكسينجر وهو اليهودي أراد بانتقائه هذه القلعة أن يعطي الإسرائيليين رمزاً عميقاً لمعنى تشددهم هذا. وعندما نرجع إلى التاريخ نعرف قصة هذه القلعة ففي عام 71 ميلادية قام اليهود بتمرد عسكري ضد الرومان مما جعل القائد (تيتيوس Titius) يزحف إلى فلسطين من مصر ويحاصر القدس ثم يدمر الهيكل وينهب المعبد ويتفرق اليهود من يومها شر ممزق في البلاد وبقيت قلة منهم 960 شخصاً بعائلاتهم من الزيلوتيين المتشددين وفريق من طائفة الآسينيين الذين عاصروا المسيح، وتركوا مئات الملفات الخفية في كهوف كمران، عند البحر الميت، فجاءهم الرومان بالسيوف القصيرة والرماح وآلات المنجنيق وطال البلاء والحصار فلما رأوا أن الاستسلام مصيرهم قاموا بعملية انتحار جماعية فأمسكوا بالخناجر والسيوف وبدأوا بذبح أطفالهم وبقر بطون نسائهم وأخيرا استقبل الرجال بعضهم بعضاً وقاموا بقتل بعضهم بعضا حتى سالت الدماء في الممرات وكان عددهم حوالي ألف إنسان، فلما دخل الرومان القلعة في النهاية لم يجدوا إلا الجثث وهي رميم. وهذه القصة حفرت أثرها البعيد في الوجدان اليهودي، وليس من طفل يهودي إلا وتقرأها أمه عليه وكأنه يشهدها اليوم. ولعل الهولوكوست الذي دخلوه على يد النازيين يضاف إلى المأساة أيضاً. ولقد وقف الفيلسوف اليهودي سبينوزا أمام عناد قومه اليهود وعزلتهم عن الناس مع الشكوك المتبادلة والشعور أنهم شعب الله المختار المطهر من دون العالمين عمل لهم الكثير من المشاكل مع الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها ما عرف ب (البوجروم) أي حفلات الاضطهاد المكررة وأنا أتذكر أيضاً تلك المشاعر ضد اليهود ونحن أطفال حيث كانوا يعيشون في «جيتو» خاص بهم من حي منعزل ويحافظوا على أنفسهم من خلال إتقانهم جمع المال والتجارة فالمال هو نجاتهم . والمهم فإن كيسنجر أراد برحلته هذه إلى قلعة الماسادا أن يقول لهم بدون قول وبدون كثير من الجدل إن أردتم الانتحار الجماعي مثل جماعة الماسادا فالطريق أمامكم. كان كيسنجر يكرر لهم ثلاثة أمور أولاً إنني أمريكي وثانيا أنا وزير الخارجية لرئيس دولة أمريكا وثالثاً أنا يهودي وكان هذا يضايق (جولداماير) فكانت تقول إنه يقرأ لنا الخط من الشمال إلى اليمين. ويبدو أن رحلة الماسادا نفعت فأرجعت إسرائيل كل سيناء. ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)). وأذكر هذه الواقعة بمناسبة مشاركة المستشار الألماني شرودر الذكرى الستينية لمعتقل الإبادة في آوسشفيتز في بولندا.