لصدق أقول لكم لقد شعرت أنني في مومباي الهند لا في صنعاء.. وما عدت لأستغرب بعد الآن لو رأيت مواطناً يمنياً من القبائل الحمر يسجد لبقرة في قارعة الطريق، فقد أصبحت كل الأفكار ممكنة في العالم الجديد.. ليس هذا ما يحزنني بالطبع، فمن حق كل إنسان أن يختار مقعده في النار من الآن إذا شاء، وإنما يحزنني حقا أن لا يجد الإنسان فرصة حقيقية لمحاكمة أفكاره محاكمة علمية هادئة، ليتبين حقها من زيفها، فيأخذ أو يرد عن بينة. خلال أسبوع واحد تقريباً، وجدتني _ويا للمفاجأة_ في حوار ساخن مع أربع ملل مختلفة، لا رابط بينها سوى كوب النسكافيه الذي كنت أشربه صدفة على طاولة الحوار!.. ليست المفاجأة هنا بالطبع، بل في أن جميع من حاورتهم من أتباع هذه الملل كانوا يمنيين خالصين لا شية فيهم!.. الأول اثنا عشري على سنة الكليني والثاني ملحد على سنة ماركس، والثالث مسيحي على سنة بولس، والرابع صديق عزيز وقع خطأ في فخاخ البهائية!. الصدق أقول لكم لقد شعرت أنني في مومباي الهند لا في صنعاء.. وما عدت لأستغرب بعد الآن لو رأيت مواطناً يمنياً من القبائل الحمر يسجد لبقرة في قارعة الطريق، فقد أصبحت كل الأفكار ممكنة في العالم الجديد.. ليس هذا ما يحزنني بالطبع، فمن حق كل إنسان أن يختار مقعده في النار من الآن إذا شاء، وإنما يحزنني حقاً أن لا يجد الإنسان فرصة حقيقية لمحاكمة أفكاره محاكمة علمية هادئة، ليتبين حقها من زيفها، فيأخذ أو يرد عن بينة.. قلت لنفسي: هاهي الملل والنحل من كل صنف تتحرك وتكسب من الشباب اليمني ما تكسب، دون أن يمنعها حد الردة المزعوم أو إرهاب المؤسسات التقليدية من المضي في طريقها.. ما الذي فعلته أجواء القهر والكتمان إذن في مقاومة الأفكار الزائفة؟ سواء أنها أخرجتها من العلنية إلى السرية. والسرية تمنح الأفكار نكهة خاصة وتماسكاً كبيراً.. ويقيني لو أن هذه الأفكار خرجت إلى العلن دون خوف من إرهاب لخسرت كثيراً من بريقها عند أتباعها.. فكثير منها قائم على أرض رخوة شديدة الرخاوة.. ولقد جربت ذلك خلال أسبوع واحد. فقد عرفت مثلاً أن جميع من حاورتهم تركوا عقيدتهم التقليدية (السنية) لما فيها من خرافات وتلبيسات ومشكلات، جاء معظمها من عقيدة حجية الحديث، ومقولة الإسلام بفهم السلف الصالح.. لكن هل كان ما وجدوا الحل والخلاص فيما ذهبوا إليه.. لقد رأيتهم يتخبطون يمنة ويسرة في الدفاع عن أفكارهم الجديدة أكثر من تخبط السلفيين في سلفيتهم.. أحدهم رفض الدين جملة لأن القرآن _بزعمه_ كتاب خرافة، بدليل أنه يخالف نظرية النشوء والارتقاء في الخلق، وحين ناقشته في المسألة وجدته لا يعرف الفرق بين النظرية والحقيقة العلمية، قلت له: اعطني حقيقة علمية واحدة تتعارض مع قطعي القرآن الكريم، فلم يجد غير نظرية داروين ووالاس. قلت له هذه نظرية وليست حقيقة علمية، فضلاً عن أنه ليس في القرآن نص قطعي في رفضها أو تأييدها.. ثم أراد أن يأتيني بالقاضية فقال لي: القرآن يزعم أن السماء بناء وهذه خرافة، أين هذا البناء؟.. قلت له ساخراً: يبدو أنك تريد أن ترى السماء جداراً من الإسمنت والحديد.. أنت تقرأ القرآن بعيون مقاول..بينما هو نص أدبي وحالة علمية.. إن كلمة بناء تفسر في كل علم بحسب طبيعته.. فالبناء في الأدب حقيقة أدبية لها معناها الأدبي.. والبناء في اللغة حقيقة لها معناها اللغوي.. والبناء في الفيزياء حقيقة لها معناها الفيزيائي.. ولو أنك قرأت لعلماء الفيزياء قليلاً لعرفت أنهم مجمعون على كون السماء بناء، وكل علماء اللغة والأدب اليوم يقولون إن اللغة والأدب بناء، وهكذا الحال في كل تخصص.. هذا هو المستوى المعرفي والعلمي والمنهجي للإلحاد، كما عرفته في أكثر من حالة مباشرة، فلماذا الخوف من مناقشة أصحابه على الملأ؟. ومثله بقية الملل.. فهذا صديقي البهائي يقول وكله ثقة أن الإيمان بالتوراة والأناجيل الموجودة بين يدي اليهود والنصارى اليوم واجب، وأن هذه الكتب لم تتعرض للتحريف النصي كما يزعم المسلمون.. وإنما تعرضت لتحريف المفاهيم فقط.. أي إن القرآن يحدثنا عن تحريف الأفكار والمفاهيم في رؤوس اليهود والنصارى لا في نصوصهم.. وعجبت لهذا الرأي.. لأن أبسط إطلالة على هذه الكتب وعلى دراسات المحققين من أهلها يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن التحريف النصي قد وقع فيها، وهناك عشرات الأمثلة الدالة على ذلك.. وبعد حوار مطول معه وجدت أنه يقف على رمال متحركة تكاد تبتلعه وهو يظن أنه واقف على أرض صلبة.. وجدته يبني بناء شاهقاً على كم كبير من الظنون والاحتمالات المرجوحة.. فليس هناك فكرة أساسية واحدة تتمتع بالصلابة المنطقية أو المنهجية.. ووجدت أن جميع أصحاب هذه الملل يقضون وقتاً طويلاً في تأملها ومحاورتها وتأييدها دون أن يقضوا وقتاً كافياً في تحليل مقدرتهم المعرفية والمنهجية.. ولو أنهم فعلوا ذلك لعرفوا قبل غيرهم مدى النقص الذي يعتريها.. إنهم يدخلون سباقاً خطيراً مع الأفكار دون أن يفحصوا مركبات السباق.. دون أن يعرفوا مدى صلاحيتها وكفاءتها للمهمة. ترى لو أن المناخ كان مناسباً لإدارة حوار علني مع أصحاب الملل والنحل المختلفة هل كانت الحقيقة ستخسر شيئاً؟..بالطبع لا، فالحقيقة لا تخسر إلا في جو الإرهاب الفكري، والإيمان لا يخسر إلا في جو الكتمان.. والخاسر الوحيد من أجواء الحرية الفكرية هم أصحاب المصالح الراسخة في المؤسسات التقليدية، الدينية والقبلية والسياسية.. هدانا الله وإياهم..a