لأن الصوت يصدر عن الجسم البشري، ويتّصل بالهندسة البنائية الدقيقة لهذا الجسم، فالتركيبة التشريحية للجسد الآدمي هو المقدمة الأساسية للقابليات الصوتية الصادرة عن الإنسان، وبهذا المعنى فإن متوالية «الجسد/ الصوت/ الحرف» تبدو في حالة تناص جبري مداه الحقيقة السرمدية القاضية بأن تكون الظواهر المرئية والمسموعة مُدوْزنة بموسيقى الوجود الكُلي النابعة من الحق. هكذا يكون الحرف حمّال أبعاد جسمانية وصوتية، وكلا البُعدين الجسماني والصوتي يتماهيان مع الطبيعة حد المُضاهاة المعنوية والدلالية، فما من صائت إلا وقد كان قلّد صوتاً صادراً من الطبيعة، وما من قائل إلا وقد كان عبّر عن المعنى الذي كان يُشار له من قبلُ بالبنان، ثُم تمّ تجريده من الملموس المباشر إلى المجرد الغائب في غوامض الغيب، فأصبح الكلام تجريداً أقصى للمعاني، وأصبحت المرئيات قابلة للتحوُّل إلى مسموعات، وأصبح الذهن البشري بمثابة برنامج كومبيوتري «سوفتوير» يجيد تحويل التجسيم إلى تجريد، والمجرد إلى ملموس، والمرئي إلى لامرئي، واللامرئي إلى مرئي، والعابر إلى دائم، والدائم إلى عابر. والشاهد أن من يتعلم لغة أُخرى غير لغته الأصلية يواجه صعوبات كبيرة وعسراً شديداً في بداية رحلته الدراسية لتلك اللغة حتى يتسنّى لدماغه أن يفرد مساحة خاصة بصوتيات ومرئيات اللغة الجديدة، ثم تأتي لحظة الحقيقة فإذا به ينطق ويكتب بعد أن كان عاجزاً كالطفل الذي يبدأ في التأتأة ثم يتحدث بعد حين. المراحل التي يمر فيها الطفل ترميز مكثف إلى تاريخ العلاقة الإنسانية بالكلام والمقال، وهكذا فإن التشويش الذي ينتاب الطفل وهو يبحر في مياه الكلام المترجرجة أشبه بذات المتوالية التاريخية التي مرّ بها الإنسان، والشاهد أيضاً أن ذات التطور البيولولجي للكائن الإنساني يختزله الطفل في سنين حياته الأولى.