جاءت آمنة من أسرة كريمة، ليست غنية ولا فقيرة، كانت متوسطة الحال، لكنها كانت موضع تنافس الأسر الراقية كل منها يتمنى أن تكون آمنة من حظهم فتقدم لخطبتها الكثيرون، لكنها بعد التشاور مع أبيها وأمها لم تجد في المتقدمين من ترضاه شريكاً لها في مسيرة الحياة، حتى كان ذلك اليوم الذي حضرت فيه فعالية مهرجان عن القضية الفلسطينية، استمعت إليهم جميعاً وقد كان الملل والسأم مصاحباً لحديث معظم المتحدثين فأخذ الحضور يبررون الملل بالتثاؤب والالتفات يميناً وشمالاً ربما كان بعضهم يبحث عن منفذ يسهل له التسلل من القاعة ..فجاء المنفذ ولكن ليس لتسهيل تسللهم من القاعة وإنما ليشد انتباههم ويجعلهم أكثر حرصاً على الالتصاق بمقاعدهم، بل أخذ بعضهم يكتمون أنفاسهم من شدة التأثر والتفاعل مع المتحدث...فما وجدوه في حديثه لم يجدوه في حديث الآخرين؟ كان يتحدث بلغة عربية سليمة خالية من اللحن ومن الأخطأ اللغوية إلا ما ندر منها..كانت ثقافة واسعة بحيث أخذ يسترسل في حديث شيق متنوع وبنبرة هادئة رصينة يقلب ناظريه هنا وهناك يتابع الوجوه المشدودة إليه، لكنه لا يتفحص ولا يمعن النظر في أي وجه عدا تلك النظرة السريعة التي هيأت له أن يختطف ملامح فتاة تجلس قبالته، لكنها سرعان ما شعرت بالارتباك لما قد يلحظ من شدة تأثرها واستغراقها في المشهد. قبل أبوها أيسر المهر وزفّت إلى عريسها بأيسر التكاليف.. وقد سعدت بهذه الزيجة أيما سعادة..لم تسعها الدنيا من الفرحة فأخذت تعبّر عن مشاعرها بالحمد والثناء على الله تعالى الذي يسر لها الأمور بحيث تجد الشخص الذي كانت تبحث عنه في فكرها وخيالها مع أن أحواله المادية كانت تضعه في خط واحد مع الفقراء ..ولكن أين الفقراء أو حتى الأغنياء من هذا العقل الكبير الذي يصلح إن وجد الجهة التي تتبنى أفكاره وقدراته ومبادئه أن يغير أحوال البلاد إلى أرقى مستوى، لكنه مع الأسف لم يجد من يهتم بأمره...أما آمنة فقد اكتشفت للوهلة الأولى أنها أمام رجل يختلف عن أولئك الذين إن تحدثوا لا تشعر إلا أنك أمام اختبار عسير في الصبر والتجلد، فإذا ما انتهوا من حديث التنويم أو من الصراخ الشديد، شعرت بالفرح من كل قلبك لأن ساعة الفرج قد جاءت، فلا تتمالك نفسك من التصفيق بحماس لانتهاء فترة اختبار عسير لقدرتك على الصمود لا ينجح فيه سوى من يجهلون اللغة ويجهلون الثقافة والتاريخ والذوق الرفيع، أو من يسلّمون أنفسهم للنعاس أو لغفوة طويلة حتى نهاية الحفل أما آمنة فبعد انتهائها من غفوة طويلة بسبب الملل من تلك المحاضرات المشحونة بالأهوال والمحشوة بالسخافات إلى جانب هتك عرض اللغة والعبث بقواعدها، استيقظت على صوت محاضر يمسك بناصية اللغة من حيث قواعدها بأسلوب بديع ومميز ويسترسل في سرد أحداث التاريخ بدون مبالغة أو تهريج..ينتقل من معنى إلى معنى بعد تمهيد يسمح للمستمع أن يربط الأحداث بعضها ببعض. شعرت آمنة أنها أمام محاضر يحترم عقول مستمعيه ولا يلقي الكلام على عواهنه، فتمنت في نفسها لو أن أمثال هذه الكفاءات والقدرات يملأون ربوع البلاد وتساءلت فيما بينها وبين نفسها لماذا يكون أمثال هذا الإنسان نادراً جداً..لذلك فقد عقدت العزم قائلة: إما أن أجد شريكاً لحياتي كهذا الإنسان وإلا فالعزوبية أو حتى العنوسة لن تكون أكثر شراً من ارتباط الواحدة منا بمن هم لا يجيدون شيئاً في حياتهم بما في ذلك لغتهم وكفاءاتهم العلمية أما عبد الله..فقد انتابته مشاعر الغبطة منذ أن وقعت عيناه عليها ..ولم يكن يتمنى في حياته أكثر من أن يجد«زوجة» في مثل عقل آمنة ورقة مشاعرها وجمال أخلاقها وقد أخذ يصفها تارة “بالجوهرة” وتارة بالكنز الذي لا تساويه كنوز الدنيا بجمالها. كانت هناك خلافات تحدث بين آونة وأخرى..ولكن لأن كلاً منهما أحب صاحبه حباً نقياً طاهراً، مبرأً من الأنانية ومطالب الحياة الساذجة أو السخيفة، فقد كانت خلافاتها على الدوام لا يعلمها أقرب المقربين إليها..انعكست هذه العلاقة الحميمة على علاقتهما بالآخرين..أخذ عبد الله على عاتقه أن يتقبل كل إساءات الآخرين بالصفح والتسامح إلى جانب الدنيا كلها من أجلها..وكذلك آمنة كانت في علاقاتها مع أهلها وقريباتها أو زميلاتها نموذجاً للمرأة الصالحة المتوازنة عقلاً وقلباً، قال عبد الله يصف زوجته.. هذا الترتيب الذي أراه في البيت يتجدد بين الوقت والآخر، يتم عن ذوق رفيع وعقل مرتب وذهنية شديدة الأناقة ..إنها تملك حساً ذواقاً لا يمكن وصفه إلا أنه ناضج ومبدع ، يبتكر كل يوم ما يعمق الحب والإعجاب فيما بيننا..أما هي فقد قالت عنه: وكان عقله المبدع وأخلاقه الكريمة وحنانه الخلّاق..كان ذلك كله قد أخذ دورة تأهيل في حنايا ضلوعه فنتج عن ذلك رقة مشاعر تسمو على مر الأيام وترتفع فوق الخلافات والمنغصات وكل ما تأتِ به الأيام من أسباب الشجار أو الخلاف.