الحرب هي أم كل الأشياء،و لن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين، والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون،وكل يوم هو في شأن. هذا ما قاله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس الذي عاصر قبل موته أحداثاً جساماً انتهت على حد السيف،فقبل أن يموت بسنتين قام الملك الفارسي كزركسيس باجتياح بابل بعد حدوث تمرد فيها ليدمرها تدميراً ومعها تمثال الإله مردوك الذي كان يتعبده البابليون، وقبل ذلك بثماني سنوات شهد حملة الملك الفارسي داريوس عام 490 قبل الميلاد على بلاد الإغريق التي انتهت بمعركة ماراثون وهزيمة داريوس وقبل أن يموت شهد الاستعدادات الضخمة لحملة جديدة على بلاد الإغريق. وفي عام موته 480 قبل الميلاد شهد الزحف الأعظم على بلاد اليونان التي انتهت مرة أخرى بهزيمة منكرة في معركة سلاميس البحرية،والرجل كان يعيش في آسيا الصغرى تركيا الحالية في مدينة إفسوس ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في مدينته. وأهم ما تركه الرجل من أفكار هي أن الكون يقوم على دورة طبيعية, وتحكمه قوتان: الحب والكفاح, وكل شيء ينشأ من هذا التنافس، وما نراه من تباين الأشياء ترجع في النهاية إلى هذا الصراع الذي يوحد الأضداد في النهاية. وكان يرى أن الكون يقوم على صيرورة متدفقة فلا يبقى شيء كما كان حتى ولو وضع الإنسان قدمه في النهر فلن يكون هذا النهر هو هو كما كان قبل لحظة. وهو محق من هذا الجانب أن التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير والثابت، كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود، وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين«ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين»،ولكن ليس معنى هذا أن تندلع الحروب، ولا يعني التدافع القتل بحال، ولكن الرجل عاش في زمن سيطرت عليه الحروب بدون توقف وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها لو اجتاح الفرس بلاد الإغريق،ويذهب البعض إلى أن نجاة بلاد اليونان من الاحتلال الفارسي مهد الطريق لنشوء عبقرية بلاد الإغريق التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو، فلا يمكن لأي إبداع أن يأخذ طريقه وسط الإكراه، ومنه يقول هيراقليطس: إن الحرب تحدد مصائر الناس أن يكونوا سادة أو عبيداً، وهو محق بهذا،فقد عاش الرجل في ظروف مرعبة من جدل التاريخ. وفكرة الرجل جوهرية لفهم حركة التاريخ على ساقين أنه يتحرك بدون توقف وأنه يتحسن بدون توقف. ولقد عني القرآن بهذا الموضوع فاعتبر أن الأصل في الدين أنه لا يقوم على الإكراه. وانتبه لهذا المؤرخ البريطاني توينبي فاعتبر أن الإسلام جاء بشيء عجيب للعالم عندما سمح للمخالف أن يبقى على قيد الحياة، ولم يكن هذا المبدأ من التسامح الفكري قائماً في العالم يومها، لم يفهم هيراقليطس من الناس جدياً وكان حريصاً على تعتيم عباراته ربما لأنه كان من عائلة ارستقراطية فترفع عن الناس العوام واعتبرهم جهلة لا يستوعبون (اللوجوس) أي العقل وأن ثلاث آفات تطفىء النار العقلية: النوم والغباء والرذيلة. من المهم أن نستوعب أن الفكر الإنساني يتطور ولا يقف عند فيلسوف والاكتشافات العقلية الرائعة التي وصلوا إليها في عالم اللوجوس لا تنتهي واليوم بعد النزاع الفظيع بين الروس والأمريكيين في سباق الفضاء يطبقون مبدأ هيرقليطس فتتحد الأضداد من جديد لينطلقوا بمشروع عملاق لبناء محطة فضاء عالمية «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».