ظلت الحروف المقطعة أو المعجمة في أوائل السور القرآنية لغزاً محجوباً أمام المفسرين الأوائل والأواخر على السواء ، وذهبوا فيها كل مذهب، وكانت عبارة الله أعلم بمرادها هي العبارة الشائعة دائماً. وأجمل وأبدع ما وجدناه ما ساقه المفسرون عن علي رضي الله عنه أنه قال: (هو اسم من أسماء الله تعالى فرقت حروفه في السور) ودلل على ذلك بجمع حروف (الر) و (حم) و(ن) لتمثل كلمة (الرحمن) .. أما بقية الحروف التي لا يمثل جمعها اسماً معروفاً من أسماء الله الحسنى بأنها من الأسماء التي اختصها الله في علم الغيب عنده ... وكان تعليلاً منطقياً لكنه لم يشبع الرغبة في تفسير ومعرفة الحروف، أما ( الزمخشري) فقدم صفات لهذه الحروف عجيبة وصحيحة في الوقت نفسه فهو يراها (14) حرفاً تقع في (29) سورة بعدد أحرف العربية ونصفها يمثل أحرف الجهر وأحرف الهمس وحروف الصفير والإخفاء ...الخ بمعنى حوت هذه الأحرف الصفات وأضدادها. وتقدم العلم قليلاً وظهرت تقنية الحاسوب وبدأت الحروف المقطعة تفرز رأياً جديداً – رغم التحفظ عليه- أن هذه الحروف تتكرر في السور التي تحتويها بمضاعفة العدد (19)، هذا العدد الذي عقد البهائيون حوله قداسة غريبة ودللوا على ذلك بأشياء عجيبة. ويعرض الدكتور مصطفى محمود في آخر فصل من كتابه (حوار مع صديقي الملحد) عدد المضاعفات لهذه الأحرف في سورها فمثلاً في سورة (ق) يتكرر حرف القاف (57) مرة أي 3 أمثال العدد 19. الأعجب من ذلك أن في سورة (ق) يقول الله تعالى: (إخوان لوط) بينما في باقي القرآن كله يقول: (قوم لوط)، فقالوا لو قال بدلاً من إخوان لوط قوم لوط في سورة (ق) لزاد عدد القافات واحداً و أصبح 58 أي ليس من مضاعفات الرقم 19. ولكن الأعجب من ذلك أن المشركين من قريش – أهل الأدب والبلاغة – لم يجادلوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن هذه الحروف لم يسجل التاريخ أن أحداً من المشركين قال للنبي (صلى الله عليه وسلم): يا محمد ما هذه الحروف ما معناها ؟! والسبب بسيط – كما يلوح لي - لأن هؤلاء القوم أدركوا إيحاء هذه الحروف ودلالتها – دون معرفة معناها – لما للحرف العربي من إيحاء – فلم يعترضوا. وإيحاء الحرف العربي يمكن أن نجده في أنك ترى أن حرف الحاء مثلاً يدخل في كل ما يتعلق بالحرارة – حقيقة أم مجاز – مثل حريق / حرارة / حب / حنين /حمى ...الخ. وبالمثل حرف الخاء يدخل في كل ما يتعلق بالوسخ – حقيقة أم مجاز – مثل خلاعة/ وسخ / خسة / خداع / خنا/ خراب...الخ. أليس في ذلك إيحاء يغني عن السؤال؟! ألا ترى معي أن الغموض طلب إنساني في كل شيء – لكنه غموض الإيحاء ليس غموض الإبحار من دون هداية - ولو كان كل سر مكشوفاً للنفس الإنسانية لفقدت متعتها التي دائماً تتوق إليه في كل بحث لكشف أي غموض تواجهه، وجعل هذا الغموض هو المحرك للبحث والاكتشاف، وكذلك يجب أن نأخذ هذه الحروف بمنظور التوقيفية في القراءة فهي مفتاح التفسير، فأنت في نطقك لهذه الحروف تنطق أسماءها وليس مسمياتها، بمعنى أنك لا تقول (الم ) هكذا متصلة بل تنطقها (ألف. لام .ميم) كل حرف على حدة، وهذا يمنع – من وجهة نظري – تفسير هذه الحروف مركبة بل مقطعة كما ننطقها ،ولما لا نقول : إن هذه الحروف هي شفرة لكلمات طويلة، ونشاهد أن هذه الحروف مرتبطة بالإشارة إلى القرآن أو الكتاب (أي القرآن أيضاً) كقوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه)(البقرة:2-1) وقوله: (الم الله لا اله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق) ( آل عمران:2-1) وغيرها من الآيات..وخاتمة المطاف ما الجدوى من معرفة معاني هذه الأحرف؟ هل سيعود علينا تفسيرها بشيء ؟ أقول لا ضير في البحث لكن دون تنطع وتحميل القرآن ما لا يحتمل، كما رأينا من بعض المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير هذه الأحرف بالهيروغليفية المصرية القديمة متناسين أن القرآن عربي، وبذلك صرحت الآيات نفسها، فما بال ذلك المؤلف قد عقد كتاباً كاملاً حول تفسير الأحرف بالهيروغليفية، وذهب في ذلك مذهباً بعيداً محاولاً إلصاق أن الهيروغليفية أصل اللغات وأن العربية اشتقت منها ؟! القرآن عربي وأي تفسير لن يكون مقبولاً إلا بالتعامل مع عربية الكلمات والأحرف.