«الرحمة» خصلةٌ عظيمةٌ وصف اللهُ بها المؤمنين من عباده عندما قال :«أشداءُ على الكُفّارِ رحماءُ بينهم» إضافة إلى كونها مشتقة من أحد أسمائه الحسنى، لذا فعظمتها تكمنُ في مدلولاتها وما يترتب عليها من نتائج تصبُّ في مجملها في الصالح العام للمجتمع المسلم بل وتنعكس حتى على ديار الآخرين من غير المسلمين . لذلك فقد حضَّ عليها القرآنُ الكريمُ والسنة النبوية المطهرة في عشرات الآيات والأحاديث لما لها من أثرٍ مباشرٍ على حياتنا وارتباطٍ وثيقٍ بجميع مناحي الحياة وبمختلف تكويناتها وتشعباتها ابتداءً بالأبوين مروراً بالزوجة والأولاد والجيران وانتهاءً بالحيوان والأشجار وغيرها . فبدون الرحمة تصبح الحياة لا معنى لها، بل وشبيهة بحياة الغابات، كونها فقدت قيمة رئيسية من قيم الإنسانية والإسلام ويتحول المجتمع إلى مجتمعٍ ماديٍ صرف . أما بيت القصيد هنا فيتعلقُ بالغياب أو التغييب الذي تتعرض له هذه الصفة العظيمة عند الكثيرين لأسباب عديدة أبرزُها طغيانُ الجشع المادي واللهث وراء الكسب السريع وبشتى الطرق، وهو ما لاحظه الجميع خلال الأسابيع الأخيرة حيث ارتفعت أسعارُ المواد الغذائية بصورةٍ مهولةٍ ما انعكس سلباً على الواقع المعيش للمواطن، وهو ارتفاعٌ غيرُ مبرر بالطبع سوى أنه مرتبط ببعض الأساليب التي يحترفها المضاربون بالعملات، وكذا بالشائعات التي يطلقها عديمو الضمائر عن تردي العملة والأوضاع السياسية ما دفع عدداً من كبار التجّار إلى احتكار تلك السلع، وبالتالي زيادة الطلب عليها حتى وصلت أسعارها إلى مبالغ غير معقولة، وهنا نسألُ هل نُزعت الرحمة من قلوبنا حتى أصبحنا لا نفكر سوى بأنفسنا ؟ وهل ماتت الضمائرُ بين الصدور حتى نُجرِّع المواطن مالا يقوى على تجرعه ونزيده آلاماً على آلامه وهموماً على همومه ؟ أين المسؤولون المعنيون مما يجري ؟ وهل سنسمعُ عن صدور أحكام قضائية بحق المتلاعبين بأقوات الناس كي يرتدع الآخرون ويمتنعوا عن تكرار مثل هذا التلاعب ؟ هل فكّرَ هؤلاء المحتكرون والمتلاعبون بالعملة أنهم بقدر ما سيجنونه من أرباح كم مسكيناً سيؤذون وكم طفلاً سيُبكون وكم فقيراً إلى طاولة الفقراء سيجلبون ؟ أين نحن جميعاً من قول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : “ مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفِهم كمثلِ الجسدِ الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالحُمى والسهر “ ؟ أم أن البعضَ فهمَ هذا الحديثَ بصورةٍ معكوسةٍ فيعمدُ إلى إيذاء الآخرين كي يرتاحَ هو وأفرادُ أسرته على حساب راحتهم ومأكلهم ومشربهم ؟ والأدهى من كل ذلك أن هذه الارتفاعات الجنونية تسبقُ شهرَ الرحمة والمغفرة والعتق من النار بدلاً من أن نستثمره ونجعلَ منه شهراً لمراجعة الذات ومحاسبة النفس، شهراً للبذل والعطاء والإنفاق، شهراً لتزكية النفوس وتطهير القلوب من الأدران التي علقت بها . أخيراً .. أذكّرُ بحديث خير البشر صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمن» علَّنَا نحاسبُ ضمائرنا ونفكر بل ونطمع في رحمة الرحمن، فنرحم من لهم صلة مباشرة بنا، خاصة والحقيقة التي لا مناص عنها تؤكدُ أنه عندما يغيبُ التراحمُ تتفككُ الأواصرُ ويزدادُ التنافرُ، وتحلُّ البغضاءُ محلَ المحبة والإخاء.