جاء في الحديث الصحيح أن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فهذه المرأة خلت من نفسها أي مشاعر كما خلا منها عنصر الرحمة ومات ضميرها. ومن ثم لم يعد لديها أي إحساس. وإذا كان ذلك كذلك فكيف بمن حاصر وحبس شعبا بأكمله، فلا هو فتح لهم معبر رفح فوق الأرض ولا هو سمح لهم بالأنفاق تحت الأرض، إضافة إلى قتل من يتواجد في هذه الأنفاق كما حدث في الأسبوع الماضي، بل وأقام جدارا فولاذيا هو الأول من نوعه في تاريخ البشرية كلها- حسب علمي- لكونه تحت الأرض ناهيك عن فوق الأرض فضلا عن قوته العظيمة، وما زود به من معدات وأجهزة وآلات هي آخر ما أنتجته التقنية (التكنولوجيا) المتطورة. وإذا كانت المرأة في الحديث النبوي حبست هرة وهي نفس واحدة لكنهم في حالة غزة حبسوا مليون وسبعمائة نفس. وإذا كانت تلك نفس حيوان واحد، فهذه نفوس مليون وسبعمائة ألف إنسان، لهم حقوق أتت بها الشرائع السماوية، وأقرتها المواثيق الدولية، وسلمت بها البشرية قاطبة- سلمت بها- بصورة علنية- بغض النظر عن الباطن. وأنا هنا لا أتحدث عن دور العدو الإسرائيلي في حصار غزة، إذ ماذا ينتظر من عدو أن يصنعه بعدوه، خاصة إذا كان هذا العدو قد عرفناه طوال التاريخ بحقده الدفين ومكره العظيم ودمويته وإرهابه المتناهي و.....الخ. ولكن الحصار بتلك الصورة الشنيعة التي ذكرتها آنفا إنما جاء من خلال الأخ لأخيه، والشقيق لشقيقه، والقريب لقريبة، والأهل لأهله، والجار لجاره، ولقومه ولعشيرته، فأين ذهب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وأين ذهبت أسس وعوامل وعناصر الدين واللغة والقرابة والتاريخ والمصير المشترك والأرض الواحدة، وأين ذهبت نقاط الالتقاء الكثيرة في مواجهة عدو واحد مشترك، بل وأقله وفي أدنى الأحوال أين ذهبت الإنسانية، وأين ذهب الضمير والإحساس، وأين ذهبت المشاعر والعواطف البشرية التي جبل الله تعالى عليها كل الناس، وهل كان أحدنا يتصور أو يتخيل قبل عقود من الزمن أن مثل هكذا يمكن أن يحدث للشعب الفلسطيني حتى صار حالنا اليوم كما قال الشاعر: رب يوم بكيت منه... فلما صرت في غيره بكيت عليه...