نلاحظ في ذكر (مدين) اسم المنطقة التي توجه إليها موسى عليه السلام دوراً في تغير مسار قصة موسى عليه السلام , كيف ذلك؟ هرب موسى عليه السلام من مصر خائفا يترقب من بطش فرعون بعد قتل القبطي فلما كان في مدين وكان ما كان من موقفه مع ابنتي شعيب في سقي الماء حتى وصل إلى بيت شعيب ليجزيه أجر ذلك .. تغيرت محور القصة فبعد أن قصّ القصص على شعيب أمنّه هذا الأخير كما ذكر القرآن :(فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (القصص25) , وذكر أكثر المفسرين في معنى النجاة من القوم الظالمين قول شعيب :( فقد خرجتَ من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا) فلو لم يذكر القرآن اسم (مدين) صراحة وذكر اسما مبهما لما وقر في ذهن المتلقي أن (مدين) خارج سلطة فرعون موسى إلى جانب انه مكث فيها عشر حجج أي عشر سنوات وهو عليه ذنب لدى حكومة فرعون فلو كانت (مدين) تحت حكمهم لطالت أيديهم موسى عليه السلام خلال هذه المدة الطويلة لكن هذا لم يحدث تحقيقاً لمقولة القرآن على لسان شعيب :(لا تخف نجوت من القوم الظالمين) حتى عاد موسى عليه السلام إلى مصر بعد انتهاء خدمته لدى شعيب وفي طريق عودته كانت النبوة في أماكن ذكرت هي الأخرى بأسمائها مثل الوادي المقدس طوى , وجبل الطور . ونرى أن القرآن يحشد اللغة في تصوير مكان الحدث إذا أراد للمتلقي أن يهتم بالمكان بذاته أو أن المكان يلعب دورا محوريا في القصة مثل الكهف في قصة أصحاب الكهف ( ذكر الكهف ست مرات) فالقرآن بدأ سرد القصة من الكهف واختتمها به لذا صوّر الكهف بدقة من حيث الظواهر الطبيعية التي حوله (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ (الكهف17) وموقع الفتية منه (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) ومواطن حركتهم فيه (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (الكهف18) وحتى كلبهم ركّز القرآن على موقعه (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) ليصل القرآن إلى بلوغ الذروة في تصوير المكان في قوله تعالى (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) هذه الصور المكانية- إن صح التعبير- تمثل تصويراً دقيقاً ُتري المتلقي (ديكور) مسرح الأحداث لهذه القصة العجيبة فيلعب المكان وتصويره دورا مركزيا في نقل الموقف دون حركات كثيرة من الشخصيات ولا حوار , إلى جانب جعل المتلقي كأنه مشاهد حاضر لتلك الأحداث سواء كان ذلك المتلقي هو النبي صلى الله عليه وسلم أو أي قارئ للقرآن الكريم ونلاحظ التركيز على ضمير المخاطب في (وترى الشمس/ تحسبهم/ لو اطلعت / لوليت/ ولملئت) لتحقيق هذا الحضور للمتلقي . والتصريح باسم مكان مثل( الجودي) الجبل الذي رست عليه سفينة نوح عليه السلام كقصد من القرآن – والله اعلم – على اسم هذا الجبل ليكن نقطة انتهاء القصة أو انتهاء العذاب لقوم نوح فلو ذكر اسما مفتوحا لموضع استقرار السفينة لم يعط للمتلقي هذه الظلال المنبعثة من ذكر الاسم صراحةً إلى جانب ان استقرار السفينة في نهاية المطاف على جبل – وهذا خلاف الوضع الطبيعي لاستقرار أي سفينة على شاطئ – يدعم قوله تعالى (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ(هود42) , فأمواج تعلو كالجبال هي من المنطق تستطيع أن تحمل السفينة على الاستواء في نهاية المطاف على جبل ! وكذلك ما نقرأه في قوله تعالى- على لسان ابن نوح - (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ (هود43) , فلما قال ابن نوح (جبل) - مكان مفتوح- فكان استواء السفينة على مكان مفتوح مثله (جبل) فيقع التوهم لدى المتلقي حول هذا الجبل العاصم لذا كان التخصيص في ذكر اسم الجودي أجمل والإيحاء أنه جبل أيضاً.. والله أعلم .