لا جدالَ أن العظماءَ وحدَهم من ينسجون أسماءَهم بحروفٍ من ذهب في أسفار التاريخ الناصعة ، بما يسطرونه من مواقفَ وتضحياتٍ ، وبما يُقدِّمونه لأوطانهم من منجزات. لذلك فلا عجبَ أن تظل مواقفهم تلك محفورةً في ذاكرةِ الناس ، تتوارثها الأجيالُ وتتدارسُ أبعادَها وتقفُ عند مدلولاتها . وبما أن شواهد التاريخ والعظماء كثيرةٌ ، حتى أن بعضها قد أصبحَ مضرباً للأمثال ، إلاّ أن إحدى هذه المواقف كثيراً ما تستوقفني على الأقل عند مقارنتها بما يجري في بلدنا على الرغم من أن مدى التشابه بين الحالتين لا يستدعي المقارنة بينهما . عام 1997 م احتدم الخلافُ بين شريكي الحكم في تركيا زعيم حزب الرفاه السابق البروفيسور نجم الدين أربكان وزعيمة حزب الطريق القويم العلمانية تانسو تشيلر, واستمرت حالة المد والجزر بين الجانبين طيلة فترة الشراكة بينهما وعندها مارسَ العلمانيون ضغوطهم بشتى الوسائل, وطلبوا من السيد أربكان تقديم استقالته وحلّوا حزبه وأصدروا حكما بسجنه ومنعه من مزاولة السياسة ، على الرغم من عدم وجود مُسوغ قانوني يجيزُ لهم ذلك ، ففضّلَ أربكان الاستقالة بدلاً من إدخال تركيا في أزمةٍ عاصفةٍ وخيمة العواقب ، وعندما سؤل عن سبب موافقته على الاستقالة ؟ قال : إنه لا يريد أن يكون سبباً في سقوط قطرةِ دمٍ واحدةٍ من أحد مواطني شعبه ، رغم امتلاكه الأدوات التي يمكن عن طريقها عدم الرضوخ بهذه السهولة ، ولعمري أن مثل هذه المواقف من يكشف معادن الرجال الذين يمارسون السياسة كوسيلة لبناء الأوطان وليس غاية لتحقيق مآربهم . دائماً ما أتذكر هذا الموقف للبروفيسور أربكان خاصةً عندما أسمع أو أقرأ بعض التصريحات أو الخطابات المُتشجنة أو الكتاباتِ المشحونة بلغة التحريض على العنف والفرقة والتطرّف والفوضى وخلق العداوات بين أبناء الشعب الواحد . وهنا أتساءل : لماذا يُصوِّرُ هؤلاء التنافسَ الحزبي المشروعَ والمتاحَ للجميع على أنه خصامٌ وعداء ؟؟ وما الذي سيجنيه أولئك الفوضويون من دماء الأبرياء وهم يشرعنون للقتلة والمجرمين قتلَ إخوانِهم وقطعَ الطرقاتِ ونهبَ الأموال ؟ لماذا التشكيكُ في كلِّ شيء حتى في النوايا ؟ وهز الثقة بين الناس بهذه الصورة التي تجعلهم يُكذِّبون حتى الحقائق ويُنكرونها ولو كانت على مرمى البصر ؟ من المستفيد من شحن الأجواء بهذه الطريقة ؟ وأين نحنُ من أخلاقيات الدين وتعاليمه السمحة التي تجرم هذه الأفعال ؟ كيف لنا أن نبني وطناً ؟ وكلُّ واحدٍ مِنّا يُشكِّكُ في الآخر ويكذِّبه ويفتري عليه ؟ خلاصةُ القول : إن هذا الوطنَ أمانةٌ في أعناقِنا جميعاً سلطةً ومعارضةً ، حكاماً ومحكومين ، فلنتق الله فيه ، ولننأى بأنفسنا عن الصغائر والمصالح الأنانية الضيقة ، ولنا في مواقف العظماء عظاتٌ وعبر ، خاصةً الرجالَ الذين صنعوا المواقف ، والمواقفَ التي تكشفُ معادنَ الرجال .. [email protected]