يعيش مجتمعنا حالة جمود فكري قاسية جداً فماهي الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة ؟! هل هي الأزمة الاقتصادية التي يعانيها العالم بأكمله ؟! أم أنه الاقتصاد الوطني المتخلخل, والذي يفتقد للتوازن بين الموارد البشرية كجانب متحرك ومواده الخام كجانب ساكن علماً بأن 70% من المواد الخام هي مستوردة وليست محلية. هل هو التعليم الذي يكتفي بسياسة “فك الخط”؟ أم أنه الإنسان ؟! في الحقيقة انشغلُ كثيراً في تأمل هذا المجتمع وأحاولُ جاهدةً أن أكون نموذجاً حياً للعمل والعطاء والتغيير, واعترف أنني أواجه صعوبات كبيرة جداً لكني أطمح إلى هدف تعريف الشباب بأهمية البحث عن الذات ورسم الأهداف تدريجياً من الصغير إلى الكبير وإعمال العقل في ضرورة تحريك موقع القدم والسعي للوصول إلى الأفضل.. ومن خلال تأملي في حياة الناس وجدت أن الإنسان اليمني يعاني من أمراض كثيرة بعضها نفسي وراثي, والبعض الآخر مكتسب, وهذه الأمراض التي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الخمول , الخوف من الغد , الجهل بأهمية التغيير , اللامبالاة.. وهي أمراض جعلت من مجتمعنا مجتمعاً ساكناً مقتنعاً بقوت اليوم أو بالأحرى “قات اليوم” مجتمعاً لا يهتم بحركة التغيير أو إعصار التغيير الذي يجتاح العالم . فبينما يتجه الشباب اليوم إلى تفعيل أفكارهم ومشاريعهم الصغيرة والترويج لها عالمياً, والحصول على الاكتفاء المادي بأيديهم, والمساهمة في رفع مستوى الوعي الاجتماعي والاقتصادي لأوطانهم, تجد شبابنا في وحل التواكل وإرضاء رغبات المزاج, يعبرون عن فراغ عقولهم ووصولهم حد البلادة في الاعتماد على النفس “يادباب وصلني للمقوات نزلني ششتري حبة ذحلة.. إلى قوله والكندا والسجارة من دكان الحارة.. “ هذا التواكل هو مايدفع الشباب إلى القبول بمهن وحرف وضيعة بالكاد تكفي لتوفير قيمة القات والدخان اليومية, ومن هنا أيضاً تنقطع صلة الرحم وأواصر القربى, فتصبح أمزجتهم وبطونهم هي ماتمضي سنوات عمرهم, وهم ينفقون عليها لتقنع وتشبع, ولكن ذلك لا يحدث أبداً؛ فالقات في مجتمعنا هوية رجولية ذات دلالة شخصية عميقة.. إنه عادة متأصلة أدت إلى تغيير نمط اجتماعي قديم جداً ذي دلالة تاريخية, شهدت على آثارها صحراء الجزيرة, وأسواق الشام وسهول تهامة عبر قوافل تاريخية صيفاً وشتاءً لا تعرف الكلل.. واليوم تحول النمط النشط إلى نمط خامل جداً لا ينتج إلا الفشل والخمول والملل, بل ولم تسلم من بذاءة أخلاقياتهم أعراض الناس. وأنا أراهن أننا من أكثر الشعوب التي تستخدم الألفاظ المشينة طوال اليوم على مدار أعوام العمر !.. فقد لاحظت كثيراً من يتلفظ بها دون أن يمسه أحد بسوء, فهي تقريباً تستخدم كتعويذة سحرية لطرد الشر وجذب الرزق, وإلا لما كان الجميع مفتوتاً يتذوق نطقها وتحسس ذوبانها على مسامعه..هذا المجتمع لا يحلم بواقع نظيف حضاري يضع القانون نصب عينيه. في اعتقادي أن إنساناً لا يحلم أن يكون مسكنه وحيه وشارعه ومدينته نظيفة وجميلة, وكذا علاقاته مع كل من حوله هو إنسان لا يختلف عن الحيوان في شيء إلا أنه ناطق يحمل دالة على هويته البشرية, إنه أسوأ صورة للتوظيف البرجماتي الآلي الذي لا يستخدم عقله أبداً. وأشعر بالدهشة الشديدة جداً حين يتحدث البعض عن رغبته في الإصلاح فإذاً أين المشكلة لماذا لا نبدأ ؟! هل ننتظر الدولة أن تنظف عقولنا من اليأس والإحباط والتخاذل, وتطهر ألسنتنا من بذاءة اللفظ وقذارة الترميز؟!! إذا كنا في انتظار ذلك فنحن فعلاً شعب صميل كما يقال, لأن الدولة عليها توفير الأمن العام والبنية التحتية الجيدة والخدمات التعليمية والصحية, القادرة على تصحيح المسار, وإن كان ذلك لايزال في البدء, إلا أنها قد قامت به ومابقي من التطوير هو مسئولية البشر الذين يسكنون بقعة الأرض هذه.. لكن إذا كان الإصرار على إبقاء هذه الصورة البشعة قائماً فعلى الدولة اتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها إصلاح الوضع مثلاً : حبس عاقل أي حارة لا يلتزم سكانها بتنظيف حيّيهم كاملاً حتى يستطيع إجبار شباب وأطفال تلك الحارات على الالتزام بالنظافة, أو فرض عقوبة وغرامة على من يتلفظ بألفاظ نابية تخدش الأدب خاصة أن الصغار يتقنون تقليد الكبار في كل شيء تقريباً.. وهكذا حتى يشعر هذا المواطن أنه أصبح نظيفاً من الداخل والخارج, وأصبح مشروعاً لإنسان حضاري, وعندها فقط قد يبدأ بالتفكير والبحث عن مشاريع حضارية صغيرة أو كبيرة, تساهم في تحسين مستواه المادي والجسدي, إذ إننا في مجتمع يعاني أيضاً من سوء تغذية يتفاقم يومياً بسبب الغلاء المفروض على المواد الغذائية, ولا أعتقد أن جسماً سقيماً بكل الأمراض السابقة سيتوج بعقل سليم بناءً وفكراً. لقد أصبح للقات عندنا فلسفة خاصة به لفظاً ونوعاً, بل إنه أصبح يشار للون الأخضر الغامق باللون القاتي, وكأن جميع الأشجار ذات الخضرة الداكنة انقرضت, ولم يبق إلا القات. والمشكلة أن من يحمي وجوده بشر من عالم آخر محصنون ضد الفقر.. لكنهم بالتأكيد غير محصنين ضد الموت.