يوماً بعد آخر تشتد حدة الأصوات المناهضة لنفوذ القبيلة في اليمن, إلا أن المناهضين للقبيلة في الوقت الحاضر يرتكبون نفس خطأ الاشتراكي في السبعينيات حين تطلّعوا لإنهاء وجود القبيلة والمشائخ بقوة الدولة وبطشها, وتجاهلوا أنها مكون أساس للتركيبة الاجتماعية, لذلك عاودت الظهور بمجرد زوال النظام الحاكم. قد يكون مبعث تلك الدعوات المناهضة للقبيلة الممارسات السيئة التي تمارسها بعض القبائل وشيوخها من أعمال خطف وتقطّع وفتن مسلحة, لكن عندما نعود بالتاريخ قليلاً إلى الوراء تبهرنا الأدوار التي لعبتها العديد من القبائل إبان الثورة على العهد الملكي, أو مقاومة الاستعمار البريطاني, وفي مراحل كثيرة من مسيرة نضال الشعب اليمني. إذن أين تكمن مشكلتنا مع القبيلة في ظل استحالة نكران الأزمات التي تتسبب بها بين الحين والآخر..!؟. قبل كل شيء ينبغي النظر إلى مشكلة أكبر وهي غياب أي استشعار حقيقي صادق للواقع القبلي, فجميع القوى التي تناهض القبيلة في بياناتها أو خطاباتها وتصريحاتها هي في حقيقة الأمر أول من يكرس نفوذ القبيلة. فالأحزاب جميعها دون استثناء تلجأ إلى مشائج القبائل, وتجزل لهم العطايا في أي نشاط تعبوي أو انتخابي إذا ما أرادت ضمان نجاح نشاطها, وهي بذلك تؤكد نفوذهم الاعتباري, الأمر الذي دفع بأعداد هائلة منهم إلى مجالس النواب والشورى والمحليات وحتى أمانات الأحزاب والجمعيات والمنظمات!!. إن هذا النوع من النفاق السياسي والمدني الذي تمارس به قوى المجتمع سلوكاً نقيضاً لشعاراتها هو المتسبب الفعلي بإيجاد مشاكل خطيرة اسمها “القبيلة” من خلال منح شيخ القبيلة نفوذاً سياسياً بجانب نفوذه الاجتماعي, وتعزيز مركزه داخل محيطه الجغرافي في الوقت الذي كان مناطاً بقوى المجتمع تعزيز قيم الممارسات الديمقراطية التحررية التي من شأنها تحرير الأفراد من ثقافة الانقياد والتبعية المتوارثة التي تسلبهم إرادتهم الشخصية وحقوقهم الإنسانية. ومن جهة أخرى, فإن تحويل موضوع القبيلة إلى محض شعارات ومزايدات سياسية ومحاولات من مظاهر البرستيج الثقافي تسبب بإلحاق ظلم فادح بالقبيلة, نظراً للإمعان بتشويه سمعة القبيلة بدلاً من بحث الأسباب التي تجعل منها كياناً نشازاً بممارساته. حيث إن المشكلة الحقيقة قد تزداد تفاقماً إذا لم ندرك أن حركة التطور والانفتاح الهائلة التي شهدتها اليمن خلال العقدين الماضيين لم تكن متوازنة إطلاقاً وتولدت عنها فجوة كبيرة في الواقع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين المناطق الحضرية التي تنامت بسرعة والمناطق الأخرى في بعض المحافظات التي لم تلامس الحياة الجديدة الا بقدر بسيط لا يسعفها على تغيير واقعها القبلي. فجميع شعوب العالم نشأت من تجمعات قبلية, وليس اليمن وحدها, ومن البدهي أن تحمل الحياة القبلية بعض العادات المتخلفة, لكن بإيجاد برامج وطنية للدمج الحضاري للقبيلة بالمجتمع المتمدن يتولد عن الاحتكاك ثقافة مشذبة, وهو الأمر الذي لم يحدث على نحو مؤثر مع بعض المناطق القبلية اليمنية, فاستمرت العزلة واستمرت معها الثقافة السلبية. ويمكن القول إن القبيلة في اليمن قد تكون ذات أهمية كبيرة في حماية الهوية الوطنية في زمن الغزو الثقافي والفكري ودعوات التمزق المشبوهة, إلا أنها قد تتحول إلى خطر كبير إذا ما أطلقت الأبواب أمامها لامتلاك ما يجعلها أقوى من سلطة الدولة كما هو الحال مع اقتنائها الأسلحة الثقيلة. وفي كل الأحوال فإن حتى هذا الخطر من الممكن أن يتبدد إذا ما نجحت الدولة في تبني استراتيجيات وبرامج وطنية لإدماجها بالحياة المدنية المتحضرة. ولنتذكر أن القبيلة في العراق هي التي قضت على القاعدة والفتن, ولم يكن دور الدولة إلا داعماً بالإمكانيات, فالقبيلة لا تصبح عبءاً إلا عندما تفتقر إلى الوعي وتغيب عن أجندات الدمج الحضاري. ومن لا يجد نوادي ولا انترنت ولا ستلايت سيحمل سلاحه ويشغل فراغه بقطع الطريق..!!.