رغم أن القبيلة تمثل المكون الاجتماعي الأساس للدولة، إلا أن الرأي الشائع هو أنها أكبر عائق أمام تقدم الدولة! وهو رأي غالباً مانعلق عليه الكثير من أخطائنا، ونبرر به بعض الممارسات التي لجأت إليها بعض الأنظمة. القبيلة في اليمن لعبت دورين إيجابيين بغض النظر عن السلبيات - الأول على المسار النضالي الثوري، سواء ضد القوى الأجنبية «الأتراك والإنجليز» أو ضد الأنظمة السياسية المستبدة - كما هو الحال مع دورها في الثورة ضد الإمامة، أما الدور الثاني فهو في الحفاظ على المكون التراثي اليمني الذي يزخر بالقيم النبيلة، والأعراف الأصيلة. لكن عندما نعرج على الحروب والصراعات، والتقطع، والخطف، والتعصب يتجلى لنا الوجه القبيح للقبيلة، وفداحة الآثار المترتبة عنه.. إلا أننا في الغالب لانسأل: لماذا تبقى هذه الممارسات القبلية رغم التحولات الكبيرة التي تشهدها الدولة، والقفزة الهائلة لمجتمعات الألفية الثالثة!؟ لماذا تصبح القبيلة عبئاً على الدولة!؟ وكيف استطاعت مقاومة ثقافة العصر وتحولاته!؟ هذه الأسئلة تلتقي كلها تحت مظلة جواب واحد هو: إن القبيلة لو حظيت بما حظيت به مجتمعاتنا المدنية لأصبحت مثلها، ولعاشت أدق تحولاتها، لكن الفجوة الإنمائية كرست عزلتها، وأضعفت احتكاكها الحضاري مع ثقافة العصر الذي نعيشه.. فلو حاولنا اليوم استذكار أسماء المناطق القبلية الساخنة - التي تتكرر فيها الممارسات السلبية لوجدناها تفتقر للكثير من البنى التحتية، والخدمات الأساسية، وإن هناك بوناً شاسعاً بينهاوبين أقرب مركز حضري مدني منها.. وبالتالي فإن فرص التحول، وثقافة العصر التي نتحدث عنها لاوجود لها أصلاً على أرض الواقع لتلك المناطق القبلية. عندما زرت صعدة والجوف عام 2001م فوجئت أن مناطق تبعد نصف ساعة عن مركز المحافظة معظم أهلها لم يسبق لهم رؤية صحن الستلايت، فيما تأتيهم الطاقة الكهربائية من وقت صلاة المغرب وحتى العاشرة مساءً، وهناك أيام عديدة من كل شهر يغرقون بظلام دامس..إذن من أين لهذه القبائل معرفة بثقافة العصر؟! خاصة وأن الغالبية العظمى من منظمات المجتمع المدني تركز أنشطتها في مراكز المدن، أسوةً بالمؤسسات الثقافية والإعلامية وحتى الأحزاب لاتصلها إطلاقاً لأنها تعتمد على ولاء شيخ القبيلة ونفوذه بين ربعه وليس على وعي أبناء هذه القبائل ومن يتصفح قوائم البرلمان من السهل عليه الوقوف على نوعية الأعضاء بالقياس إلى الهوية الجغرافية. ومن هنا لايمكن اعتبار «تخلف» القبيلة في بعض ممارساتها إثماً تجني به القبيلة على الدولة، بقدر ماهو دليل على أن القبيلة هي الضحية التي ظلمتها الخطط التنموية غير المتوازنة، وظلمها فساد الإدارات المحلية، وفساد المشائخ أيضاً الذين غالباً مايكونون طرفاً في صفقات الفساد التي تصادر المشاريع التنموية! إذن المشكلة تكمن في كيفية تحديث ثقافة القبيلة، ودمجها بعصرها، ومحيطها المدني الذي سبقها بعشرات السنين، وبات هناك تصادم حضاري بين الطرفين. هناك حقيقة تفرض نفسها علينا جميعاً، وهي أن اسم القبيلة «اللقب» يمثل أحد شروط إثبات الشخصية في الوثائق الرسمية في مختلف أرجاء العالم - وهذا وحده كافٍ لتأكيد أن القبيلة تمثل الأصل في الانتماء الوطني وبالتالي فإن الممارسات الخاطئة، والتقاليد البالية تمثل مظهراً ثقافياً «متخلفاً» يمكن تغييره بغرس ثقافة بديلة من خلال تنمية الوعي، وكسر أطواق العزلة بجسور حضارية، وانعاش وسائل الحياة المدنية.. فمن الخطأ أن تعتمد الدولة على مهارة النزول إلى ثقافة القبيلة «السلبية» لحل المشاكل، لأن الأصوب أن تسعى الدولة إلى الارتقاء بثقافة القبيلة إلى مستواها، وإلى قيمها العصرية الرفيعة!