ليس أدل على المجد الكبير الذي بلغته الأندلس ما يتجسّد في موسيقى الموشحات الأندلسية من تواشجات وعناصر متعددة الأبعاد، كاملة الأداء وراكزة في قلب التثاقف الكبير الذي بلغته الحضارة العربية الإسلامية في تلك المرحلة التاريخية الهامة، فالمعروف أن الموسيقي «زرياب» هو الذي بذر بذرة الموسيقى الأندلسية في شبه الجزيرة الايبيرية “ اسبانيا والبرتغال” بعد أن غادر بغداد إلى تلك البقاع الجميلة من العالم الإسلامي الكبير، ولم تكن تلك البذرة الأولى مشمولة بعناصر هندية وفارسية وعربية فحسب، بل تواشجت سريعاً مع أنماط من الغناء الكنسي الذي كان حاضراً في البيئة العربية الأندلسية، عطفاً على التجاور المكاني والإبداعي بين المسلمين والمسيحية الدينية والثقافية. كانت بيئة الأندلس العربية الإسلامية تتّسم بقدر وافر من التسامح والتعايش، حتى أن المسيحيين واليهود كان لهم دور كبير في حياة الدولة ومشاريعها التربوية والثقافية، ولم يكن غريباً في مثل هذه الأحوال أن ينشأ «ابن ميمون» فيلسوف الأندلس الأشهر ذو الأصول اليهودية من تلك البيئة، كما أن البروتستانتية الدينية كانت حاضرة في أساس المشهد ومقتضياته، ولقد سجّل المؤرخون ذلك الانحسار الكبير الذي حاق بالحضارة بعد أن تمكن الأسبان الكاثوليك من السيطرة على مقاليد الأمور، فقد انشأوا محاكم الغفران الكنسية الكئيبة، وكانوا يعتبرون المسلمين واليهود والبروتستانت مُجدّفين كفرة !! ويعرضونهم لذات العقوبات التي لم تتوقف عند تخوم هذه المِلل، بل شملت العلماء والأدباء من خارج الديانات الثلاثة، مُسجلةً فترة ركود وظلام كبيرين في شبه الجزيرة الايبيرية . تحركت عناصر الثقافة العربية الإسلامية الأندلسية بمشمولاتها الإنسانية الشاملة صوب الجنوب، فيما ظلت شفراتها قابعة داخل اسبانيا في أوروبا، وكانت الموسيقى الأندلسية بموشحاتها ومقاماتها المتعددة خير شاهد على ما بلغت إليه تلك الحضارة من تقدم ورقي، حتى أن العلماء مازالوا إلى يومنا هذا يكتشفون المزيد من عناصر البناء والتوليف داخل هذه الموسيقى. يقال إن«زرياب» حرص منذ البدايات الأولى على مزاوجة الموشحات الأندلسية بعناصر الطبيعة وأزمنتها الفيزيائية التي تتوزع إلى الساعات الأربع والعشرين من كل يوم، وكان لا بد وتبعاً لذلك أن يصبح البناء اللّحني صرحاً كبيراً، وأن يتحرك النص الشعري قدماً إلى الأمام ليخرج من الدائرة المستغلقة لعمود القافية والتفعيلة الواحدة، ولهذا السبب كان الشعر الأندلسي المرتبط بالموشحات ومازال محطة تطوير كبير للبيان والبديع العربيين.