للوهلة الأولى من قراءة هذا العنوان يشعر القارىء أن الحديث هنا عن الاستيطان الإسرائيلي في الأرض المحتلة, وبغض النظر عن كون الاستيطان الإسرائيلي هو محور حديث الشارع العربي والعالم من حولنا, فإنه لا يوجد أي استيطان آخر في العالم فكل دولة قائمة على ترابها وفي أرضها باستثناء الكيان الإسرائيلي الغاصب, الذي اتخذ فلسطين منذ 1948م وطناً قومياً لليهود, الذين تجمعوا من كل أقطار العالم ليشكلوا كياناً غاصباً على أرض محتلة بمباركة أمريكية- بريطانية ودول استعمارية أخرى لم تجد معها كل أشكال التفاوض عبر عقود زمنية كاملة, ورغم النضال الفلسطيني الطويل وقوافل التضحيات التي لم تتوقف والتي لن تتوقف إلا بعودة الوطن إلى أبنائه والأرض إلى أصحابها ولو بعد حين فما بني على باطل يظل باطلاً وإن تقادم عليه الزمن, فأجيال فلسطين المتعاقبة تولد على الأرض ويولد معها حب الوطن وعقيدة النضال والدفاع عن الوطن المسلوب حتى استعادته. إن المفاوضات الطويلة المنفردة بين إسرائيل والفلسطينيين أو بين إسرائيل والأطراف المعنية (دول الطوق العربي) سوريا، والأردن، مصر، لبنان، فلسطين أكدت على مدى عقود مضت منذ 1968م وحتى اليوم عدم رغبة وجدية إسرائيل في تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة, بما يمنح الشعب الفلسطيني الحياة الكريمة على أرضه وإقامة دولته الفلسطينية على الأقل, وأكدت أن الموقف المتعاطف لراعي السلام في الشرق الأوسط المتمثل في الولاياتالمتحدةالأمريكية لايقوى على فرض السلام المنشود بقدر ما يسعى لحماية إسرائيل ومنحها القوة والاقتدار الكافي سياسياً وعسكرياً؛ لترسيخ الاحتلال والتشجيع على التوسع الدائم في الأرض الفلسطينية ودول الطوق العربي وتحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية ضاربة تهدد أمن واستقرار دول الجوار العربية ومنطقة الشرق الأوسط برمتها, ولن نذهب بعيداً أو نسترجع ذكريات الماضي ومفاوضات السلام الطويلة ونتائجها السلبية، وبعيداً عن مؤتمر مدريد 1994م ومؤتمر أوسلو1996م وخارطة الطريق بعد ذلك والقرارات الدولية, التي أفرزتها تلك المفاوضات فإننا نقف اليوم على صورة واضحة الملامح هي قضية الاستيطان التي وأدت مفاوضات السلام في الشرق الأوسط, وكيف اندفعت الحكومة الصهيونية في تعزيز سيطرتها على الأرض وفرض الأمر الواقع رغماً عن الفلسطينيين, ورغماً عن العرب من خلال توسيع نطاق الاستيطان في الأرض المحتلة بغية طمس الهوية العربية كلياً وتهجير مزيد من العرب الفلسطينيين والتأكيد على أن القوة هي لغة العصر, التي يفهمها العالم برمته وهي الوسيلة الفعالة في معالجة قضايا ومشاكل الشعوب والأمم, وليس الحوار والجلوس على مائدة التفاوض الذي لا يعيد حقاً ولا يسلب آخر, ولم يكن الرئيس العربي الراحل جمال عبد الناصر على خطأ عندما قال ذات يوم: “إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. إن الموقف الإسرائيلي من السلام ومن الحوار ومن الاستيطان أمر مفروغ منه لا يعني أحداً باعتباره موقفاً اعتاد عليه العرب, وليس جديداً للمرة الأولى, وكون إسرائيل دولة غاصبة ومحتلة يهمها ترسيخ دعائم دولة إسرائيل في هذه البقعة العربية الطاهرة بأي شكل من الأشكال وبأية صورة كانت, لكن الموقف الأمريكي الغامض حيال السلام وحيال الاستيطان وحيال حقوق الشعب الفلسطيني مبعث تعجب وتساؤل أكبر من ذي قبل, كونها تدعي مسئولية رعاية السلام في الشرق الأوسط, ومع ذلك تطلق لإسرائيل العنان في عمل ما تراه وتلجم العرب بلجام محكم يمنعهم حتى من الحديث والقول الهامس في المطالبة بحقوقهم بأبسط التعابير, وقد تابع العالم برمته عملية الإرضاء الشهيرة, التي قام بها البيت الأبيض للحكومة الإسرائيلية, حيث وعد بالدعم العسكري السخي لإسرائيل بما في ذلك أكثر من (21) طائرة حربية حديثة وعتاد حربي مقابل إيقاف الحكومة الإسرائيلية لعملية الاستيطان لمدة (90) يوماً فقط لاستئناف مفاوضات السلام مما يعني أن عدم نجاح التفاوض والحوار خلال هذه المدة القصيرة جداً يعني عودة الاستيطان مجدداً, مع حصول إسرائيل لهذا الدعم العسكري, الذي لا يخدم السلام كلياً، ثم إن الإدارة الأمريكية أسدلت الستار على هذا الدعم الموعود وأعلنت سحب موقفها لإسرائيل بضرورة وقف الاستيطان والذي وضع أكثر من علامة استفهام على الموقف الأمريكي الغامض, والذي يصب في خانة الانحياز لإسرائيل ولا يخدم قضية السلام والحوار في الشرق الأوسط!! ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن البيت الأبيض يسعى جاهداً لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد, الذي أجهضته صواريخ حزب الله على شمال إسرائيل قبل سنوات, وإن اختلفت أساليب وآليات تنفيذ هذا المشروع الاستعماري, الذي يهدف من خلال مضامينه إلى تعزيز وجود إسرائيل في المنطقة ومنحها حق الهيمنة والوصاية على دول الجوار, وإعادة رسم خارطة سياسية جديدة للمنطقة تتسم بتجزئة وتفتيت الأقطار العربية المجاورة. إن من المفترض على الولاياتالمتحدةالأمريكية كراعية سلام في الشرق الأوسط الالتزام بمبدأ الحياد لضمان نجاح الحوار وضمان السلام والاستقرار في هذه المنطقة الحساسة من العالم, باعتبارها القطب الوحيد للنظام الدولي الراهن ويتوجب أن يكون دورها مترفعاً بعيداً عن النزعة الاستعمارية خاصة في هذه الظروف الدولية, التي تتوالى فيها المتغيرات ومع تنامي قوة الصين والسعي الحثيث لروسيا الاتحادية على استعادة مجد الاتحاد السوفيتي المنهار, ليدفع بالشعوب العربية إلى المضي في ركب روسياوالصين والاتجاه بعلاقاتها ومصالحها شرقاً بعيداً عن المعسكر الغربي الأمريكي- الأوروبي, وأعتقد جازماً أن روسياوالصين أكثر عدلاً وإنصافاً وأكثر وفاءً وصدقاً مع حلفائهم, وفي التعامل مع قضايا العالم, كما تعكسه تجارب الماضي الطويل, وإذا توجه العرب شرقاً فإن أمريكا بذلك تكون قد خسرت الكثير والكثير. والله من وراء القصد.