في زحمة الفراغ تتساقط أوراق الأصدقاء واحدة تلو الأخرى، ونحن في شغل عنهم لا نفزع إلا إلى جنازة أو إلى عزاء. وفي لحظات الفوات فقط نتنبه إلى غفلتنا أو إلى استغفال الحياة المضطربة لنا، كلنا ضحايا إما للموت أو للحياة. أما ضحايا الموت فيرحلون بصمت على حين غرة من الزمن الصاخب بالفراغ والمكتظ باللاجدوى، وأما نحن الغافلون عنهم فضحايا الحياة التي تجرنا عرباتها اليومية إلى المجهول وتعزلنا شؤونها الصغيرة عن محطات الموت، أو أنها تمارس علينا عادة الموات اليومي أو وهم الحياة. منذ فترة طويلة آليت على شعري أن يتخفف من قصائد الرثاء لكثرة من يرحلون ولقلة مساحة الفرح ، حين اكتشفت بأن مساحة الحزن هي المسيطرة على فضاءاتنا الشعرية. لكني في المقابل لم أفلح في حصاد الفرح المرتجى لأملأ مساحة الفرح الشعرية التي رجوت. تنتابني هذه التداعيات وأنا أعيش تساقط الأصدقاء من الرواد الذين يرحلون تباعاً بصمت من جيلنا ومن جيل الآباء على حد سواء. وفي زحمة الأحداث كلما أكتب عن أحد الراحلين الأعزاء يباغتنا الوطن بأحداث كبيرة تتجاوز أحزاننا الشخصية ونؤجل عزاء أنفسنا إلى حين لا يأتي. رحل السياسي والقومي المخضرم عبد الرحمن مهيوب ، بعد أيام قليلة من شراكتنا في ندوة تلفزيونية جمعتني به وبالدكتور عبد الملك المخلافي.وكان لي معه ذكريات ومواقف تتصل بما لحقنا به من زمنهم ولعلنا أدركنا ثمالة أعمار هؤلاء المناضلين الذين أعطوا الوطن الكثير. وكم كان المهيوب عظيماً وهو يحتمل ألم الفشل الكلوي الذي فشل عن إثنائه عن ممارسة نشاطه السياسي والوطني والقومي حتى آخر رمق. وكنت قد انشغلت عن الكتابة عن المهيوب حتى ذكرتني قراءة متأخرة لمقالة الدكتور / محمد عبد الملك المتوكل بذلك. ورحل بالأمس القريب الأستاذ الكاتب عبد الكريم الخميسي بعد أن قصرت في التواصل والزيارات التي كانت بيننا ،تحت مبرر انشغال العاملين بشغلهم عن المتقاعدين ،لكن قطار الموت لا ينتظر من يقصر في زيارة ووصل من يحب. الخميسي ذلك الرجل الهادئ الذي يحمل وطنه في قلبه الصغير ويحيطه بإحساسه الكبير ، ولأنه يحدد لنفسه المربع اللائق بمواقفه الوطنية غير المتطرفة يتفق الجميع حول هدوء طرحه وعمق إيمانه بما يطرحه. لكن ما يهمني ذكره في هذه العجالة الحزينة هو حب هذا الراحل الكبير للنقاش مع من يختلف معهم وتقديره للاختلاف وتحمله للجدل العقلاني ، وكنت ممن توضع علاقتي به في خانة الغرابة نظرا لتناقض خلفياتنا الفكرية ،لكن القليل يعلم أنا كنا نقضي ساعات طوال في منزله العامر أو في منزلي ندير فيها جدلنا ونتبنى مواقف متناقضة من زاويتها الفكرية لكنا نخلص إلى نقطة وسطى يكون الوطن هو واسطتها. وكان الخميسي - رحمه الله - صاحب مبادرات جمعت كوكبة من الزملاء حول فكرة صياغة خطاب وطني تتشارك فيه مختلف المشارب الفكرية والسياسية ، وكان ممن شاركوا بواكير تلك المبادرة الأخ الأستاذ نصر طه مصطفى ، والأستاذ عبده الجندي وآخرين. ولي معه ذكريات كثيرة تبدأ بالشعر والأدب ولا تنتهي بالسياسة، حيث كان أول من حرضني على قبول إدارة صحيفة صوت العمال بعد الحرب في ظروف غير مواتية ، على أمل صياغة صوت وحدوي للعمال، لكني سرعان ما بلغت يقين استحالة عودة صوت لصحيفة فقدت سياقها. ليس لنا في خريف الأصدقاء والعظماء إلا أن نذرف الدمع ونبكي حاضرنا الذي هو بحاجة إلى مثل هؤلاء الذين ينسلون من بين أصابع الوطن واحداً واحداً بهدوء القانع بما قدمه والقانط مما سنقدمه.