هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البيولوجيا؛ فقد يفر عراقي إلى بريطانيا مبدلاً وطنه كما حصل مع أبو كمران، وقد يعتنق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته كما في كات ستيفن، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية كما مع الدكتور شريعة، ويرتفع الإنسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر، كما حصل مع عمو خاروف (حمادة) كما كانت تسميه ابنتي وهو يجرب على الخرفان في مدينة جيسن الألمانية، ثم يضرب ضربته مع أبحاث الاستنساخ فيصبح أستاذاً جامعياً في الزارلاند .. نحن نظن أننا أحرار في المجتمع، وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلون بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ. وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوح لكل الاحتمالات والاستعدادات. والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، أو قرداً خاسئاً كما في جملوكيات الرعب والبطالة؟ كما يفرض علينا المجتمع السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج، وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت؟! ..وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والأذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاثة أشكال: فإما نفاه من ظهر الأرض إلى قبر السجن كما حصل معي أربع مرات، ومن دفء الجماعة إلى برد العزلة، أومن شاطئ الحياة إلى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي. إذن هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف، ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات، وزنزانة الزمن، وقفص الثقافة، ومعتقل المجتمع. إنه كلام محبط أليس كذلك ؟؟ تمهل قليلاً فالصورة ما زال فيها بعض الإضاءة ولكنها واقعية جداً.. ومع هذا فلا يتقدم المجتمع إلا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الإنسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع وتطوره كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا نامية قلوبة. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة، ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات، تعيد دورة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها إلى لمواجهة حادث مروع. وحيوان العجل يمشي بعد الولادة بساعات، والأرانب تنضج في شهر فتسعى، والقطط تبقى على حليب أمها زمناً قصيراً. ويبقى الإنسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان، وثالثة ب (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي. نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين، ولكن الإنسان وضع قدمه على القمر، وفتت الزمن إلى الفيمتو ثانية، وبرد المادة حتى قاربت الصفر المطلق 273,15 تحت صفر الثلج، وفهم منظومة النطق بعلم الألسنيات، ويعرف عن تاريخ الفراعنة وزمن بناء الأهرامات أكثر من كهنة خوفو وخفرع ومنقرع، ويعرف عمر الأرض بتقنية النظائر المشعة أنها 4,6 مليارات سنة، وامتلك أعتى الاسلحة بما يمكن أن يفني نسله ويمحو أثره، ويتكلم مع أخيه بالصورة والصوت بسرعة الضوء في المعمورة المضاءة بالنت والكمبيوتر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95 % من حركة الإنسان يقودها ( لاوعي ) أعمى. ثقب العين صغير ومنه يرى الإنسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى إلا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايُرى منه عشر معشار ما لايُرى. لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره؛ فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية. .الإنسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله تهبه الخلود، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون؛ فالكون كله مسخر له بسنة لاتحيد ولا تبيد . كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني؟؟ فيأتيه الجواب من الرب: اهدمه وابن أفضل منه .