أرسل لي صديقي من بحر الكاريبي ينقل عن أزمة رجل مسلم هاجر إلى نيوزيلندة، وتزوج بامرأة من تلك البلاد، ورزق منها بطفلين أخذا اسم عدي وعدن, ولأنني رجل هاجر إلى كندا فأعرف تماماً مشاكل الأقليات المسلمة هناك، والجيل الجديد الذي ينشأ هناك. يقول الرجل إن عائلة أفغانية صادقتهم، ولأن العائلة أي الأفغانية متدينة فقد لجأت لتحجيب بنت الثماني سنوات ومنعتها من السباحة والموسيقى ومصاحبة الذكور الفحول. وهنا بدأ سيل الأسئلة من أطفال المهاجر العربي، الذين رضعوا ثقافة الحداثة من مدراس نيوزيلندة، لأبيهم الذي تحصن في قلعة التقليد، وليس من جواب على معظم الأسئلة؟ لماذا الحجاب؟ ولماذا لايتحجب الذكور؟ وما علاقة الطمث بالحجاب؟ ولماذا تمنع الفتاة من الرياضة والسباحة والموسيقى وقيادة السيارة؟ ولماذا تمنع من مصاحبة الذكور الفحول؟ والسؤال يجر السؤال؟ ما معنى عمر عائشة الصغير في زواجها؟ بل وما معنى الدين؟ ولماذا يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله؟ ومن يقول إن القرآن وحي من فوق سبع أرقعة؟. إن نفس المهاجر بدأ يشك في كل مسلماته أمام ضغط الواقع، ولأنه طال عليه العمر فقد تلبد عقله وغام جوه، أما الأطفال فعقول متقدة ونفوس تريد الجواب, والطفل فيلسوف؛ لأنه مازال يحمل هم فهم العالم فيطرح السؤال بحجم الجبال الراسيات!. المهاجر العربي حاول أن يهرب المعلومات التقليدية مثل العملات المزورة (سراً) لأطفاله عسى أن يكسب إسلامهم (المقلد) في بلاد مسموح فيها الكفر والإيمان، حرصاً منه على إنتاج نسخة تقليدية من حيث جاء، وحيث لايمكن لهذه النسخة أن تتكرر في بلاد مفتوحة من أي عفن ثقافي، طالما كان الإنسان ذلك الكائن الثقافي. وأنا شخصياً أذكر تماماً قرار الهجرة الذي اخترته، متذكراً قول الفيلسوف ديكارت: من تعود السفر أصبح غريباً في بلده، ولأنني ودعت بلاداً، فقد اخترت عمل القطة في حمل أولادها إلى مكان آمن!. وهو قرار لست نادماً عليه حتى اليوم, ولا أعرف ماذا يحصل للمستقبل، ولكن الأمر المؤكد واليقيني أنني زرعت ذراريّ في بلد آمن ذي زرع وضرع واحترام للإنسان والكرامة، ووفرة رزق، وضمان عمل وصحة، واستقامة ضمير وقصة، وعدم الخوف من المخابرات والتقارير السرية والفلق.. وقل أعوذ برب الفلق. كنت في مونتريال قبل أيام فحاورت صديقي سلمان، الذي فر أيضاً إلى تلك البلاد الجميلة، حيث تذكر مدينة مونتريال بغابة قد رشت بين خضرتها البيوت مثل حبات رمل ناعمة. قال صدقني هنا أيضاً الأوضاع لا تختلف عن بلادنا, قلت له إذاً لماذا لم تستقر في تلك البلاد، وأتيت إلى هنا على بعد وبرد وغلاء؟ هل تعلمون ما هي الدوجمائية؟ الوقوع في التناقض، بدون إحساس بها مثل كوارث احتشاءات الدماغ ومرضى السكري. صدمة الثقافة كما يعرفها “ألفين توفلر” أنها تزعزع الأبنية الثقافية، وتبدل محاور التفكير، وإحداثيات التعامل مع الأشياء، وأقرب شيء لتمثيل صدمة الثقافة والفكر التقليدي، أنها عملة مزورة في سوق ليس فيها مكان للتزوير، لذا كان لابد من حقن أولادنا المهاجرين بمصول ولقاحات ثقافية حتى يتحملوا صدمة الثقافة والحداثة، ويستوعبوا دين الإنسانية الإسلام “غير المزور كما يسميها النيهوم محنة ثقافة مزورة” ودوره في فاعلية المجتمعات وعدل التاريخ. يجب تحرير العقل من الأغلال، والثقافة من الإكراه، والفكر من رؤية تاريخية ودعها التاريخ.. يقول التاريخ إن لي سنة فمن غفل عنها لم تغفل عنه، وهذا يعني تنزيل الفكر الديني عقلانياً كي يصبح في حيز المعقول. هذا الأفغاني الذي هرب من جحيم كابول وجبال الهندكوش وصواريخ طالبان واحتلال أفغانستان من القوارض من كل صنف لونان! لماذا يذهب إلى نيوزيلندة؟ بل لماذا أذهب أنا إلى كندا، ويفر نصف سكان الشرق الأوسط إلى أمريكا وأوربا والدومينيكان والأرجنتين والطليان, ويحلم النصف الباقي بالهريبة عجل الله فرجهم، كما يهتف الشيعة بقرب قدوم المهدي من السرداب, فلا يبقى في الوطن مواطن ووطن، بل جحيم مستعر، ومافيا مدربة على القتل والتهام المواطن والوطن. إنه قدر ثقافة أفلست، ومركبة فضائية تائهة في الفضاء الموحش، ولغة لم يعد يتكلم بها أحد، وعالم غريب لم تصنعه أيدينا فهو لنا مثل عالم السندباد والجن الأزرق.