عقب كل زيارة أقوم بها إلى مدينة المخا أعود مهموماً محزوناً مثقلاً بأوجاع العقل وآلام الوجدان. يا إلهي كأن هذه المدينة التي قدمتنا للعالم منذ زمن سحيق بوابتها التاريخية الفسيحة ميناءها تكاد تحتضر بعد أن أهملها جفاء المسئولين وغيبتهم الطويلة عن رد الجميل لهذه المدينة الوفية التي كانت حتى وقت قريب ترفد خزينة الدولة بملايين الريالات..، فضلاً عن كونها مزاراً للمتعبين من أبناء البلاد وملاذاً آمناً للفقراء والمهمومين.. مأساة هذه المدينة أنها تشبه “المسخ” فهي تنتمي إلى محافظة الحديدة جغرافياً ونفسياً إن جاز التعبير وكذلك ميناؤها المنكوب، بينما تنتمي إلى محافظة تعز تقسيماً إدارياً...، فلا الحديدة اهتمت بها ولا تعز آزرتها ودعمتها..؟! في العام 91م كان ميناء المخا يزخر بالحركة النشطة وكانت أفواه المخاويين تتلقى رغيفها اليومي وسبل عيشها من عائدات ونشاط الميناء، لكنها الآن وبعد مرور ما يقارب عقدين من الزمان لم يعد ميناؤها غير مرتع للفئران وباقي حشرات وهوام الخراب، بعد أن تعطلت حركة الميناء تماماً. تبدأ حركات وأساليب التعطيل بالحجر الصحي الرابض في قلب الميناء.. وتمر بإدارة جمرك الميناء بإجراءاته المُنَفَّرة والعقيمة التي تخنق كل ما يمكن أن يعود بالنفع على الناس... وكذلك تفعل الحامية العسكرية الموجودة هناك..!؟ الجميع “يتضارب” ويتقاتل من أجل فتات عائدات ما يسمى مجازاً بالميناء الميناء المنكوب..!! كل هؤلاء يعرفون أن الميناء الراقد في طرف المدينة هو شريان حياتها ورئتها التنفسية التي تمد أبناء وساكني المخا بمسوغات الحياة، ومع ذلك يمعنون في اختراع وسائل التعطيل والابتزاز والعرقلة لكل ما يمكن أن يقدمه الميناء من عمل عادي وطبيعي. باستثناء بعض الطرقات والأزقة المرصوفة وبعض الشوارع المسفلتة حديثاً.. تبدو المدينة كأنها خرجت للتو من معالم القرن العاشر الهجري.. فكل ما يمكن أن يكون له حضور فرعي من مرافق ومؤسسات الدولة، يغيب تماماً إلا بالقليل النادر عن هذه المدينة البائسة. وباستثناء أيضاً المحطة الكهربائية التي تمد محافظة تعز وبعض المحافظات اليمنية بالطاقة الكهربائية، ثم أولئك المهندسون الذين تقاطروا إليها وعاشوا فيها وكونوا أسراً وصداقات منذ عقدين من الزمن، يتناثر أبناء المخا وفقراؤها والمعدمون، على الأرصفة والأزقة والطرقات، تستنجد عيونهم الآتي والمغادر.. عتاباً تارة واستجداءً للشفقة والرحمة تارة أخرى. في المخا يهجم عليك القيظ بهوائه الساخن.. ويؤذيك الذباب الكثير ويداهمك الغبار.. ووسط هذا كله يستيقظ فيك حنين العودة إلى مدينتك وهوائها الحنون.. وطقسها الذي لا مثيل له.. ولا تملك إلا أن تشفق على أهل هذه المدينة وساكنيها من مكابداتهم ومعاناتهم اليومية من الأرض ومن السماء. يا الله.. الكثيرون مروا من هنا محافظين.. ووزراء.. ورؤساء حكومة... ومسئولين كُثر.. قبل سنوات. لكن أحداً من هؤلاء لم يلتفت إلى معاناة هذه المدينة وهي تشكو وتئن، وكانت أذناً من طين وأخرى من عجين أقصر الطرق للتخفف من المسئولية. حقيقة أشعر بالحزن.. ويداهمني الأسى وأنا أرى مصير مدينة تحتضر فعلاً.. وأسمعها تئن وتستغيث وما من أحد يمكنه الإنصات وتلبية النداء..!!؟ ليس من عزاء نبيل غير وجود أولئك الثلَّةُ من الجنود المجهولين الذين تحملوا قسوة الظروف ومرارة الأيام.. وثمة أشخاص ومسئولون جعلوا الحياة في المخا أكثر احتمالاً.. وسمحوا للوقت أن ينساب بهدوء وروعة وحنان باذخ. مدير مستشفى المخا الصديق عبدالله مهدي، ومدير المحطة الكهربائية، ثم الشيخ أحمد عبدالقوي الحميقاني مستثمر في شركة الأسمنت السائب ومديرها العام والنبيل صالح المقالح نائب مدير الميناء!! هؤلاء هم فكهة الوقت في المخا البائسة.. وكتيبة مقاتلين ولن تذهب جهودهم هباءً.. وأجرهم مضاعف وما يفعلوه هو في ميزان حسناتهم وسجل تضحياتهم ونبادلهم وفاءً بوفاء. S.M.S لا تنسني مهما مررت من تجارب فإن النسيان جفاء والجفاء ظلم كبير!! عندما افتقدك فلن أذهب بعيداً كي أفتش عنك، فقط سأنظر إلى أعماقي، حيث أنت دائماً..!!