الإنسان الحاذق لابد أن يعيش حياته كما يريد، ولا أقصد بالإرادة هنا إرخاء الحبل للنفس لتهيم في وديان الإثم والانسلاخ عن ضوابط الأخلاق، ولكنني أقصد أن يمتلك الإنسان الفطِنُ الإرادة التي يصنع بها النجاح لشخصه ويحقّق بها الارتقاء لإنسانيته ويحدث بها أثراً في الحياة، وهذا الأخير هو بيت القصيد. الأثر إذن هو نتاج العقل المفكر الذي يصرّ صاحبه على تحقيق وجوده وفاعليته في المجتمع .. الأثر هو العمل الجميل الذي يدلل على وجود إنسان يوقن بأنه مسؤول عن إنسانيته وما أودع الله فيه من القدرات والمهارات والصفات والخصائص، بل وما منحه من الفرص التي يقيس الله بها مدى همة هذا الإنسان وسعيه نحو صناعة الأثر الإيجابي الذي يذكّر الناس به بعد موته. قد تواتيك الظروف لأن تصبح وزيراً أو مسؤولاً كبيراً يصنع القرار ويدير شؤون جهة ما أو وزارة ما، فتكون بذلك قد مُنِحْتَ فرصة لتسخير قدراتك ومهاراتك، وإمكانياتك لدعم سلطتك في تقديم شيء يدل على شخصيةٍ مؤثرة وفاعلة لها بصمات في الحياة .. لكن كيف بمن يُمْنَحُ فرصة الجلوس على كرسي المسؤولية فيظل جامداً محنطاً لا يدلنا على موته إلا تعيين آخر مكانه. مسؤولون كثيرون يتسنّمون مناصب عليا في مصالح أو إدارات أو مؤسسات أو وزارات أو دواوين الوزارات لكن تجدهم وللأسف (كوز مركوز) حتى تأتي اليد التي تحرّكه لتستبعده أو يحال إلى التقاعد, أو يكسر (الكوز) داء عضال فيموت ميتة أخرى بعد ميتته الأولى وينمحي اسمه من ذاكرة الناس لأنه لم يترك بعده شيئاً إيجابياً يذكّرهم به ويتحقق من خلاله جريان الخير. هذا إن لم يكن من ذلك النوع الذي تلعب به أهواؤه فيسنّ سنة سيئة لمن بعده من المسؤولين فيمضي حاملاً وزرها ووزر من عمل بها منهم. المسؤولية عند البعض تبدو كأنها درجة اليقين التي يراها بعض غُلاة الصوفية مرحلة روحانية عالية تغنيك عن أداء العبادات .. فهؤلاء المسؤولون يشعرون أن المناصب مِنَح توزَّع عليهم لأحقيتهم من غيرهم بالرفاهية والإثراء والمزاجية في تسيير الأمور, ولأنهم يشعرون بأن “اليقين / المنصب” قد أتاهم دون غيرهم فإنهم يخلون مواقفهم من المسؤولية واحترام القانون وتطبيق النظام .. وهناك يصبح المسؤول متحقق الوجود جسدياً – فحسب – خلف مكتب فخم .. لكنه غير متحقق الوجود الفعلي ( الروحي والعقلي والإنساني) الذي يكسب شخصيته الحياة والتجدد والوقار والمهابة كونه مسئولاً عميق النظر بعيد الرؤية واسع الطموح وغيابه عن العمل لا يوقف العمل لأنه يصنع الرؤى ويُوجِد من يطبقها ولكن غيابه يُشعِر من يعملون بوجود ثغرة أو نقص لابد ان يُسدَّ بوجوده. فبعض مسؤولينا يصبح وجوده ترفاً لأنه ليس ممن يستطيع إحداث الأثر وإشعار الآخرين بأهمية وجوده .. لذلك فحضوره مثل غيابه وغيابه مثل حضوره .. يتقاطر خمولاً وكسلاً ورتابة، وعقله فارغ، وجسده غارق في المتع واللذائذ .. وأين هؤلاء من أصحاب النشاط والهمم العالية الذين يقرؤون ملامح المستقبل ويرسمون الخطط الموضحة لكيفية السير نحوه، ويغرسون الفسائل ويرمون الحب في الأرض غير مبالين بأنهم قد يموتون قبل نضج الثمر. ولنتذكر مقولة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها عن عمر رضي الله عنه من أنه كان أكثر الناس عبادة وزهداً وتقوى ولكن كان إذا مر في الطريق يقال: فلان مَرّ!!, إشارة إلى توثبه ونشاطه. قالت ذلك رداً على بعض رجال رأتهم متقاعسين في مشيهم مطأطي الرؤوس فسألت : من هؤلاء ؟! فقيل لها : هؤلاء نُساك (عُباَّد) وحال مشيهم يدل على أنهم قد بلغوا غاية في الخشوع والإنابة .. فغضبت لذلك وقالت مقولتها تلك. فالمهم النشاط وعلو الهمة والحماس للتجديد .. ونحن نريد من مسؤولينا المارين على كراسي المسؤولية أن يغادروها متى ما غادروها والناس يقولون: فلان مرّ على هذا المكان, وأضاف, أو طور, أو جدد .. أما الآلية والجمود والرتابة فإنها رسول الانحدار والتقاعس عن صناعة النجاح والنهوض .. ومن يفعل ذلك يرحل غير مأسوفٍ عليه.