قضية السياق لا تقل أهميةً في سلطتها عن سلطة الاسم وهي سلطة نفسية وفلسفية وروحية، نستطيع إدراجها ضمن العلوم الإنسانية النفسية الحديثة المضطلعة في برمجة الذات كعلم “البرمجة اللغوية العصبية” والذي هو أحد فروع علم النفس الحديثة، التي أُسست بنهاية الثمانينيات، كعلم يبحث في آفاق التنمية البشرية وآفاق السلوكيات الإنسانية وبرمجتها، ومن ذلك ما ذُكر عن الشاعر إبراهيم بن خفاجة في كتاب “تاريخ الأدب الأندلسي – عصر الطوائف والمرابطين” لإحسان عباس أنه كان يغادر أحياناً منزله بجزيرة شقر وحيداً، ويمضي حتى إذا صار بين جبلين هناك وقف يصيح “يا إبراهيم تموت!” فيردد الصدى كلماته، ثم يعيدها ويعود الصدى إلى ترديدها، ويظل على هذه الحال حتى يخرُّ مغشياً عليه.. وثمة حكاية أخرى مؤداها أن ثمة رجلاً حُكم عليه بالإعدام وكان هارباً من وجه العدالة وطريداً للشرطة وفيما كان يبحث عن مكانٍ للاختباء فيه وجد قطاراً فاستقله ومن بين مقطوراته لم يجد غير الثلاجة مكاناً للاختباء فيها، وهناك ظل يردد على نفسه عبارة واحدة هي “أنا سأموت.. أنا سأتجمد من البرد” “أنا سأموت.. أنا سأتجمد من البرد” وحتى جاء الصباح ليجدوا الرجل ميتاً، وحين يقوم فريق الطب الجنائي بتشريح الجثة يجد أن جميع أعصاب الرجل قد تجمدت وأن سبب وفاته هو شدة البرد!!. ليس المهم كيف مات ذلك الرجل لكن المهم هو أن ثلاجة القطار كانت معطلة أصلاً ...!!. إن الحاصل هنا يجسد ويرتبط مطلقاً بسلطة السياق كما في قصة إبراهيم بن خفاجة، وهي عينها سلطة الاسم، بيد أن سلطة السياق وما تعنيه تندرج ضمن “البرمجة اللغوية العصبية” الخاصة بالإنسان وسلوكياته، والفكرة قديمة قِدم فكرة الاسم وما لها من سلطة، بيد أن العرب قديماً عرفوها معنىً وجهلوها اسماً، شأنهم في ذلك شأن علوم كثيرة، وقد عرفت قديماً ب«الكذب على النفس» ومما يؤكد ذلك قول لبيد بن أي ربيعة في معلقته: واكذب النفس إذا حدّثتها إن صدق النفس يُزري بالأمل ومثل ذلك قول نافع بن لقيط: وإذا صدقت النفس لم تترك لها أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوبُ وجاء في الأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: “إذا حدّثت النفس خالياً فاكذبها” أي إذا اختليت بنفسك فاكذب عليها حتى لا تثبط من عزيمتها، فإذا حدّثت نفسك بأنك بلغت قمة النجاح فهذا مؤذنٌ بالسقوط لأن ليس بعد القمة سوى الهاوية، وإذا كنت فاشلاً وحدثت نفسك بأنك إنسانٌ ناجح فإنك ناجح وستنجح فقط وببساطة لأن “حياة الناجحين مسلسل من الفشل” وأيضاً لأن قولك هذا يتحول إلى سلوكيات وأفعال على الواقع بمعنى أنه يهندس حياتك ويُصيغُ عالمك ويبرمج ذاتك ويمنحك الأمل والنجاح، وقد أُطلِقَ على هذا في علم المنطق ب«الخداع الذاتي» وفي الفلسفة كما سماه الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” ب«خداع النفس» «self deception»و«الإيحاء الذاتي» في علم النفس، وثمة مؤلَفْ غربي صدر حديثاً بعنوان «the s cre» «السر» وهو يعبر ويتناول قضية السياق وسلطته في خضم الحديث عن سر العظمة وأسرار العظماء في التاريخ وما كان وراء عظمتهم، هذا السر كما يصفه الكتاب كان مجرد أفكار، والأفكار كالمغناطيس، تجذب الخير وتجذب الشر، تجذب السعادة وتجذب الشقاء، تجذب الفرح والسرور وتجذب الحزن، تجذب العظمة وتجذب الخيبة، وعليه فإن تفكير الإنسان في الخير يحُدث الخير وبالمثل تفكيره في الشر يجذب الشر، ولبوذا قولٌ يختزل فيه كل هذا وهو: “حياتك من صنع أفكارك” وكذلك: “نحن ما نفكر فيه، وكل ما فينا ينبع من أفكارنا، وبأفكارنا نصنع عالمنا”، فإذا رُمت وفكرت في شيء فكن كما قال الشاعر: إذا ما كنت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجومِ فإن فكرت في أنك عظيم أو في أنك ستصبح عظيماً ورددت الفكرة على ذاتك، فهذه عظمة بحد ذاتها، لأنها تقتضي الكثير من الشجاعة وجرأتك في هذا التفكير هي دليل عظمتك، حتى ولو لم ير ذلك الآخرون, سببٌ آخر هو أن إيمانك بما تفكر فيه وبما تود أن تكونه وتردده دوماً على ذاتك يصبح بلا شعور وتلقائياً رسائل إلى العقل الباطن، تتحول من ثمّ، بوعي وبدون وعي، إلى سيطرة مطلقة متحكمة في كل أفعالك وسلوكياتك، فتكون هذه الأخيرة تمثيلاً لما يدور بخلدك وبما تفكر فيه، وتذكر فيما يخص العظمة أن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، فإن أردت أن تصبح عظيماً فيجب عليك سلفاً أن تتغلب على أمتك جمعاء.. من ذلك أيضاً أن نابليون عرف بأنه كان يقول دائماً ويردد على نفسه “فليُعطنا الله المجد وليأخذ عنّا راحة البال” ليتحقق قوله هذا من ثم ويُعطى المجد ويُسلب راحة البال فيموت كسيحاً معزولاً عن العالمين..ومن قبيل ضرب الأمثلة على ما نحن بصدده، ومن خلال ما لمسته بنفسي، ما قد تُفكر فيه المرأة أحياناً وعندما يتعثر حظها أو تتأخر في الاقتران وإيجاد رجلٍ يناسبها، ما يُلزمها بتعبيرٍ نفساني بالتعويض «compensatio» أي التعويض ببدائل أخرى تشبع من خلالها “الأنيموس” التي تسكنها وهي الحس والجانب الذكوري الموجود داخل كل أنثى ويقابله “الأنيما” لدى الرجل، ويتم ذلك من خلال الدراسة أو العمل، وما إلى ذلك، وبالبدائل تستمر الحياة. إن ما لا تعلمه المرأة وتجهله أن أفكارها هي سبب تعثر حظها وتأخرهِ، وكذلك خيبة أملها في إيجاد ما يناسبها، ببساطة لأن نموذج الرجل الذي تفكر فيه سيكون مانعاً ومعيقاً لحريتها، وحارماً لها من العمل والدراسة والتواصل مع الآخرين، أو بصفة عامة وبتعبير أبلغ “رجل تقليدي متزمت” وهذا التفكير وهذه الفكرة التي ترددها بصفة دائمة على ذاتها، هي السبب في إجهاض رغبتها وإثباط عزيمتها حول إيجاد الرجل المناسب الذي لا يفكر بهذه الطريقة “رجل عصري” متحضر “فالخوف الذي يسيطر عليها هو نتيجة طبيعية لما تفكر فيه، وعائقاً نفسياً أمام إرادتها ورغبتها، فيكون تعويضها ببدائل أخرى وانشغالها مجرد انشغال لمجرد الانشغال وليس محاولةً في خلق حالة أخرى مغايرة!!. في حين أنها لو فكرت بإيجابية أو على الأقل كانت مؤمنة بما تفكر فيه وتفعله وتنادي به وتذود عنه وتطالب به من حرية المرأة ومساواتها بالرجل، فإيمانها هذا وصدقها فإن ما سيكون في الواقع نتيجة طبيعية لما تفكر فيه، أي أنها ستجد الرجل المتحضر والعصري الذي يحترم المرأة ويصونها ويقدّس حقوقها، رجلاً يكون تحقق وجوده نتيجة طبيعية للإيمان بتلك الأفكار ومرهونٌ بمصداقيتها في ما تقوم به وتمثل برأيها أمام الآخرين..وعندما يصبح الأمر بهذه الصورة فإن وجود هذا النموذج من الرجل المتحضر سيكون نتيجة طبيعية لتلك الأفكار التي تجذبه وتوجده باعتبارها أفكاراً مغناطيسية، وهذه برمجة لغوية عصبية، تعبر عن السلطة المطلقة للسياق الفكري ويجسد عن سلطة الفكرة في الذهن وفاعليتها على الواقع، وقد قال الفنان العالمي “بيكاسو”: “أنا لا أبحث أنا، أجد” أي أنه يكفي الإنسان ليجد ما يريده عوضاً عن البحث عنه التفكير فيه، وكما أسلفنا فإن الأفكار كالمغناطيس التي تجذب ما نفكر فيه وتحققه على الواقع. وهذا التفكير وهذه الاعتقاد المطلق والصدق فيها يشبه في تفاصيله مسألة العقيدة، في عالم القناعات!؟. [email protected]