منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والولاياتالمتحدة توجّه خطابها لتكريس مفهوم أن التطرف والإرهاب حالة وليدة غياب الديمقراطية في بلداننا، فأناطت بنفسها وبعض حلفائها الأوروبيين مهمة تصدير الديمقراطية وتطوير التجارب الناشئة، باعتبار ذلك الجبهة الأخرى للحرب الدولية ضد الإرهاب وهو المشروع الذي أثبتت السنون أنه ضرب من الأوهام السياسية. فالولاياتالمتحدة التي دشنت تصدير الديمقراطية باحتلال افغانستانوالعراق أعادت الحياة للتنظيمات الجهادية بعد أن قصمت ظهرها بالضربات العسكرية وحملات الاعتقال وتجفيف الموارد التمويلية، فلم يعرف العراق في تاريخه أي ذكر للتطرف والإرهاب إلا بعد أن فتحت إدارة بوش حدوده لغزوات الجماعات الجهادية التي أسست على أراضيه أولى الحركات الدينية المتطرفة والتي لم تجد مشاريع المصالحة الوطنية العراقية بداً من اشراكها في العملية السياسية ليسجل (المجاهدون) أول وصول لهم إلى دوائر صنع القرار. وعلى صعيد تنمية التجارب الناشئة جندت الولاياتالمتحدة منظمات دولية وأمريكية ومراكز بحثية، وتقاريرها السنوية حول الحريات والحقوق الإنسانية لدعم وحماية الناشطين بمختلف مؤسسات المجتمع المدني، ورهنت مساعداتها للحكومات بموضوع الانتهاكات التي تقيّد نشاطهم، فهيأت بذلك مناخاً مثالياً للمتطرفين لممارسة نشاطهم بكامل الحرية تحت يافطات منظمات وجمعيات مدنية، كما لم يعد بوسع الحكومات محاسبة الأقلام والمنابر المروّجة لثقافة التطرف، كون ذلك يعد انتهاكاً لحريات التعبير، ومن هنا فإن الفكر المتطرف الذي كان أصحابه يهمسون به في جنح الظلام قبل الديمقراطية بات متداولاً في العلن وأصبحت لدينا منظمات تعقد الندوات وتنفذ الاعتصامات المناصرة لمعتقلي تنظيم القاعدة. وعندما تقصينا الحقائق حول أسباب حصول إحدى الدول العربية على مساعدات مالية لتنمية الديمقراطية تعادل ستة أضعاف ما تتلقاه اليمن تبين أن هذه الدولة وقّعت اتفاقية أمنية مع واشنطن فيما اليمن رفضت ذلك، نظراً لمساس بنود الاتفاقية بالسيادة الوطنية بما يعني أن موضوع الديمقراطية ليس إلا مشروعاً للابتزاز السياسي وانتهاك السيادات الوطنية وكانت رهبة الفاجعة التي أحدثتها تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر فرصة ثمينة لفرض المشاريع الديمقراطية الأمريكية التي تصنع داخل كل بلد لوبيات ضغط يمولها البيت الأبيض بسخاء ويحركها وقتما شاء بريموت العملة الصعبة. ولعل المواقف والتصريحات الأمريكية بشأن أحداث الساحة المصرية أكدت بما لا يقبل الشك وقوف الولاياتالمتحدة وراء كواليسها وكذلك وراء الهوس المفاجىء بلعبة التثوير في العديد من الدول العربية ومثلما دفعت أحداث تونس بتيارات إسلامية متشددة إلى أروقة الحكومة فإنها في مصر حررت مئات المتطرفين من السجون وسيضطر أي نظام جديد يتولى الحكم إلى اشراك الحركات المتطرفة في الحكم في إطار حكومة وحدة وطنية على غرار العراق، وإذا ما تكررت التجربة في دول أخرى فإن (الجهاديين) وبفضل الولاياتالمتحدة سيتحولون من مجرد مرتزقة باسم الدين إلى مراكز نفوذ سياسي ومالي واجتماعي من خلال مواقعهم في دوائر السلطة. ومن الملاحظ في النهاية أن نتائج المشاريع الأمريكية لتصدير الديمقراطية لمكافحة الإرهاب تمخضت عن نتائج عكسية تماماً، فلم تعرف المنطقة العربية نشاطاً متطرفاً بالحجم القائم حالياً إلا بعد تبني أمريكا للحرب على الإرهاب، فيما نقف اليوم أمام لغز قيادات قاعدة الجهاد في اليمن والجزيرة منذ أربع سنوات تقريباً ويتعاقب على قيادة التنظيم عناصر عائدة من جوانتنامو أسهمت بفاعلية في احياء خلايا التنظيم بعد أن ظنت حكومات المنطقة أن القاعدة رحلت بغير رجعة، والسؤال المحير هو: لماذا تعمّد الغرب تصدير ديمقراطية زائفة وليست حقيقية.. ولماذا يغذي الفكر الجهادي ؟.