لم يكن المفكرون والثوار الأحرار الذين عرفهم تاريخ الفكر السياسي الإنساني يناضلون من أجل قضاياهم الشخصية ومصالحهم الضيقة، ولم يدعو أحد منهم لفئة اجتماعية محددة، ولم يحصروا أنفسهم في فكرة عنصرية تشعل نيران الفتنة داخل مجتمعاتهم، بل اتصفوا بالنظرة الشاملة لقضايا المجتمع وناضلوا من أجل الإرادة الكلية لمجتمعاتهم، وضحوا بمصالحهم الشخصية من أجل الصالح العام، ولذلك خلفوا أفكاراً وسيراً تروى بعد مماتهم. إن دعاة الحرية لا يمتلكون مالاً ولا جاهاً يسعون للحفاظ عليه تحت هذه الدعوات، وإنما كانت حياتهم بسيطة ومتواضعة إلى أبعد الحدود، أما اليوم فقد ظهر أدعياء لا صلة لهم بالفكر المستنير ولا علاقة لهم بجوهر الحرية ولا يفقهون في الحياة غير العبث والعنجهية والهيمنة والتسلط وانتهاك أعراض الناس والتعدي على الممتلكات ونهبها، ومع ذلك نجدهم يدعون إلى الحرية، أية حرية التي ينشدونها أو يسعون إلى تحقيقها؟ وماذا يريدون من بسطاء الناس وعامتهم الذين يغررون بهم ويدفعونهم إلى الهاوية؟، ثم ماذا سيظهر من أولئك النفر الذين لا يعرفون لأحد قدراً ، ولا يعرفون غير أنفسهم ومن هم على شاكلتهم؟ بدون شك لن يظهر من هؤلاء خير وسلام ولن يسود المجتمع الوئام والسلام الاجتماعي في ظل عنجهية الغوغاء. إن الذين يريدون الخير والسلام للمجتمع لا يمكن أن يكون تفكيرهم في كيفية السيطرة على مقدرات وخيرات المجتمع، ولا يمكن أن يكون تفكيرهم محصوراً في فئة اجتماعية معينة، ولا يمكن أن يكون لديهم نزعات انتقامية، ولا يتصفون بالعنصرية أو القروية أو المناطقية أو المذهبية، ولا بد أن يكون لدى دعاة الحرية الرؤى الوطنية الواضحة التي تعنى بقضايا الناس وليس قضايا النهابة ودعاة الفتن ومشعلي الحرائق والفاشلين في الحياة السياسية أو الراغبين في الانتقام من المجتمع الذي حجب الثقة عنهم لعدم احترامهم للإرادة الكلية للشعب. إن المجتمع اليوم لم يعد ذلك المجتمع المغلوب على أمره قبل الثورة, الذي كان يقوده أفراد نفعيون يحركونه من أجل حماية مصالحهم، ولم يعد المجتمع اليوم مجرد عبيد لا يدركون أين تكمن مصالحهم، لأن ثورة 26 سبتمبر و 14 أكتوبر المجيدتين قد قضتا على الأمية, ودخلت خيراتهما إلى كل شبر من أرض الوطن وأصبح المجتمع بفضل التعليم قادراً على معرفة الغث من السمين، ولم تعد الدعوات المناطقية والطائفية والسلالية والجهوية والقروية تؤثر فيه بنفس القدر الذي كان في السابق، بل إن في المجتمع الفكر المستنير الذي يحافظ على وحدة الشعب ويحمي مصالح الوطن ولن يقبل أصحاب الأهواء والطموحات غير المشروعة، وبات الشعب حارساً أميناً على مصالحه بإذن الله.