سُئل حكيم: كيف يكون الإنسان إنساناً؟ قال: أن تكون صلته بالله أوثق الصلات.. قالوا: كيف يتأتى ذلك؟ قال: أن يعيش نظيفاً في ظاهره وباطنه وفي سره وعلانيته، قالوا: وماذا بعد؟ قال: أن يكون دائماً في سياحة.. سألوه: وما السياحة؟ قال: أن يسعى في الأرض بجده واجتهاده ويأكل من كسب يده، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس.. قالوا: فقط؟ قال: ويتأمل في خلق الله وملكوته تأمل العابد الزاهد ويعف نفسه عن محارم الله ويخشى الله ويعلم أنه عليه رقيب في حركاته وسكناته قالوا: دلنا على خير السياحة.. قال: السياحة في كتاب الله والسياحة في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته وتعامله وحسن أدبه ورقي تربيته وجمال ذوقه، قالوا: ألا توجد سياحة أخرى؟ قال: توجد افتحوا كتاباً لتقرأوه وليس لتقلبوا صفحاته ثم تلقوه في زاوية الاهمال، ولكن ليس أي كتاب، فحسن الاختيار من الفطنة وسوء الاختيار لا يأتي إلا عن بلادة أو اعتلال المزاج، قالوا: وما فائدة السياحة بين دفتي كتاب؟ قال: تتعلمون استقامة الطبع واستقامة اللسان. من هذه السياحة يتعرف الإنسان على قرى ومدن كثيرة من حيث تضاريسها وسكانها وعلومها وتاريخها، يتعلم الإنسان كيف ينمي ذوقه ويصقل مواهبه، وكيف يمنح نفسه فرصة الاستمتاع بمشاهدة الطبيعة الحية، ينظر إليها بعيون العالم وقلب العاشق ووجدان العابد وشوق المفكر، بدلاً من نظراته السطحية والمملة لما ألِف أن يرى منذ صغره، فقد ألف أن يرى الجبال والهضاب والوديان أو الصحاري والغابات والبحار دون أن يهز ذلك شعرة واحدة في تفكيره أو وجدانه فالسياحة الداخلية بين دفتي كتاب من تلك الكتب الراقية في موضوعاتها وغاياتها، تجعل الإنسان ينظر إلى نفسه نظرة جادة فاحصة من أي نوع هو من البشر، يتعرف على الأراضي الخصبة فيتساءل: لماذا هي خصبة؟ والقاحلة لماذا هي قاحلة؟، ثم ينظر إلى نفسه: هل هي نفس خصبة تجود بالعطاء، أم هي نفس قاحلة لا تنبت إلا شوكاً وتجهماً؟ يتعرف على أنماط ونماذج من البشر من أهل المدر والوبر.. ماذا يأكلون وكيف يأكلون ويشربون؟ يتعرف على عاداتهم وتقاليدهم هل هم نهاريون؟ أم ليليون؟ بمعنى: متى ينامون ومتى يستيقظون، هل هم عاملون؟ أم كسالى عاطلون؟ إن كانوا ليليين.. كيف يقضون ليلهم؟ أفي الدرس والتحصيل؟ أم في البذاءة والألفاظ السوقية على موائد الورق «البطة» وما شابهها من الألعاب التي يمارسها صغار العقول معتلو المزاج ضعاف القدرات والكفاءات والطموح؟ سيتعلم السائح من هذا النوع بكل دقة ووضوح لا يقبل المراء: لماذا المريض صار مريضاً ولماذا الفقير صار فقيراً، ولماذا صار اللص لصاً والغني صار غنياً.. سيعلم أن هناك أغنياء ما كان لهم أن يكونوا أغنياء لولا الخلل في العقول والتشوهات في النفوس.. وأن هناك فقراء ما كان لهم أن يكونوا فقراء، لولا اضطراب الموازين واختلال المعايير، سيعلم السائح كل ذلك وأكثر من ذلك، ولكن أين هو السائح؟. وكيف تستقيم الأمور لأي أمة لا يعلم أفرادها شيئاً عن فوائد السياحة الداخلية أو الخارجية ولا يعطون الأهمية لأي كتاب؟ فالسياحة الداخلية هي التي تجعلنا نبصر أن هذا النمط من السلوك يترتب عليه ضعفاً وفقراً وبطالة وجهلاً، فيسارع العقلاء إلى إيقافه ومنعه بكل الوسائل القانونية والشرعية والأمنية لحماية المجتمع من أسباب الضعف والفقر والجهل والبطالة.. إن الذين يسمحون لأبنائهم ولأنفسهم أن يستنوا سنناً خبيثة «ملعونة» في السهر طوال الليالي الصيف والخريف، يلعبون الورق أو ماشابه الورق في الحارات والأحياء، إنما يمهدون لصناعة الجريمة والتشرد، إنما يمهدون لتمرد هؤلاء الشباب وعصيانهم، ليملأوا بعد ذلك ساحتنا، عناداً وكفراً وإلحاداً.. أمثال هؤلاء تتهيأ نفوسهم أن تكون رخيصة مبتذلة يبيعونها بحفنة من أوراق القات ونصف «باكو» من الدخان.. أمثال هؤلاء إن كانوا طلبة فلن يكونوا سوى فاشلين دراسياً، منحطين أخلاقياً، سفهاء على مستوى الكلمة وعلى مستوى الوظيفة وعلى مستوى القيادة إن صاروا قياديين، سواء قادوا «حزباً» أو شلة أو عصابة أو قادوا قطيعاً من البهائم أو حتى قادوا سيارة دباب أو عجلة نارية. سيعلم السائح وهو ممسك بكتابه يراجعه سطراً سطراً وحرفاً حرفاً، أنه لولا صغر عقولهم وضعف قدراتهم وقلة تربيتهم وسوء توجيههم ما سمحوا أن يقتلوا أوقاتهم هدراً، كما لو كانت أرخص من التراب، فإذا أوشك أن يطلع النهار رأيتهم يتهالكون فوق فرش مهترئة لا يبالون ماذا يوجد تحت أضلعهم من نفايات القات وأعقاب السجائر، أو كانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، ولا يبالون في أنهم يتنفسون هواء فاسداً حولته الشوارد السامة إلى أيونات تمنع العافية وتنذر بأسوأ العواقب الصحية والنفسية والعقلية، سيتعلم السائح الكثير الكثير مما لم يكن يعرفه من الأسباب الخفية التي تكمن خلف المظاهر والظواهر الإنسانية التي نراها، فنسمح لها بالمرور إلى نفوسنا وعقولنا دون تمحيص كما لو كانت أموراً عادية، مع أنها ليست كذلك.