مما لاشك فيه أن تجربة الحكم المحلي في بلادنا تجربة رائدة على طريق دعم اللامركزية وإعطاء المجتمع اليمني كلٌ في نطاق دائرته مساحة كبرى من الممارسة الديمقراطية في اختيار سلطاته المحلية، وإعطاء تلك السلطات المحلية الشرعية صلاحيات واسعة في ممارسة مهامها وفق ماينص عليه قانون السلطة المحلية ..إلخ ومما لاشك فيه أيضاً أن ما تحقق في هذا الجانب يعتبر إنجازاً كبيراً على المستوى المحلي وإن كان النجاح المتحقق بنسب متفاوتة على مستوى الدوائر بالمديريات أو على مستوى المحافظات أو حتى على مستوى النجاح في المجالات الخدمية والتنموية داخل الدائرة الواحدة .. لأن تجربة الحكم المحلي في شكلها ومضمونها العام أكبر من أن يتم استيعابها كلياً وتفعليها على ساحة العمل الخدمي والتنموي خاصة وأن الكثير من رجالاتها الذين قدر لهم أن يتبوأوا مهامها عبر الصندوق الديمقراطي ليسوا ممن تتوافر فيهم معايير رجل السلطة المحلية مما عكس نفسه سلباً على مجمل سير أعمالها.. وهذه النقطة بالذات ليست عيباً في ابن الدائرة الانتخابية الذي نال ثقة المجتمع ليصبح ممثلاً له في السلطة المحلية, ولكنها تمثل عيباً مشيناً في آلية العملية الديمقراطية التي فتحت الباب على مصراعيه لخوض التجربة دون أن تضع معايير لازمة تضمن نجاح العمل مستقبلاً بصورة مليئة بالقدرات والكفاءات والمؤهلات إلخ, مما يزيل صفة التفاوت في النجاح ويخطو بالتجربة خطوات متقدمة إلى الغد الأفضل. وليكن كل ماذكرناه حاصلاً أو واقعاً لاننكره إلا أنه لايعني أن سلطاتنا المحلية أثبتت فشلها في تلبية طموحات وآمال البلاد والعباد الخدمية والتنموية بل على العكس تماماً.. إذ إن الحكم المحلي وماتوافر له من دعم كبير من قبل القيادة السياسية خاصةً “توسيع صلاحياته” قضت على كثير من ملامح المركزية المفرطة في إدارة شئون الناس وتلبية احتياجات مواطنهم الجغرافية وجعلت من عملية البناء والعطاء الخدمي والتنموي قائمة على أسس من الأولوية.. كما أنها جعلت من صوت المواطن قريباً من أذن السلطة ومسموعاً. لكن!! وهذا هو الأهم دعونا نكن على قدر كبير من الإنصاف ونحن نتألم من أي قصور نعانيه من سلطاتنا المحلية هنا أو هناك على مستوى المديرية أو المحافظة؛ لأن هناك الكثير من الأسباب التي تقف وراء ذلك القصور كمعوقات أساسية لا سبيل إلى معالجة أوجه القصور تلك إلا بالعمل الجاد على إزالة مثل هذه الأسباب ومحاولة معالجتها بما يساعد على الارتقاء بعضو السلطة المحلية وصولاً به إلى أداء مهامه بصورة أفضل.. وأهم هذه الأسباب من وجهة نظري ما يلي: أولاً: إضافةً إلى عدم وضوح المعايير التي يجب توافرها في مرشح السلطة المحلية هناك المعضلة الكبرى التي يعاني منها أعضاء السلطات المحلية ألا وهي عدم وجود أي بوادر استيعاب وظيفي لغير الموظفين منهم.. حيث إن الكثير من أعضاء السلطات المحلية ليسوا موظفين وبالتالي فإن استمرارهم على هذا الوضع أثّر سلباً على تفاعلهم في مواقفهم؛ لهذا فإننا نرى أن إعادة النظر في مسالة ترتيب أوضاع أعضاء السلطة المحلية غير الموظفين سوف يسهم في تحسين أداء المهام ويرتقي بالتجربة بشكل عام .. هذا من جهة ومن جهة أخرى سوف يجعل من عضو السلطة المحلية متفرغاً تماماً لعمله في موقعه وبالتالي سيكون لذلك عظيم الأثر الإيجابي في إعداد الخطط والبرامج والعمل الإشرافي العام على كافة المجالات الخدمية. ثانياً: إعادة النظر في المكافآت المالية التي يحصل عليها عضو السلطة المحلية بالمديرية كل ثلاثة أشهر إذ إن ما يحصل عليه العضو خلال كل 3 أشهر لا يزيد عن مبلغ تسعة آلاف ريال فقط, أي أنه بواقع مائة ريال في اليوم .. وهذا الرقم في حد ذاته أقل بكثير عما يحصل عليه المستفيد من صندوق الرعاية الاجتماعية.. فكيف يكون لنا تجربة حكم محلي واسع الصلاحيات في الوقت الذي لانهتم بالوضع المعيشي لعضو السلطة المحلية ونحن نعلم علم اليقين أن ذلك له عظيم الأثر على نشاط العضو الخدمي.. فلماذا لا يتم معالجة هذه المشكلة ليس بما يتوازى مع استحقاقات عضو السلطة التشريعية (البرلمانية) وليس بما يتعادل مع استحقاقات أعضاء المجلس الاستشاري ولكن بما يضمن على الأقل تأمين دخل رسمي محدود ولو بما يعادل مكافآت أعضاء الهيئة الإدارية بالمجالس المحلية غير الموظفين شهرياً. ثالثاً: إن السلطات المحلية كمنظومة كبرى صارت وفق صلاحياتها الواسعة في أشد الحاجة إلى كثير من الدورات التأهيلية المستمرة في إطار مهامهم المناطة بها على مستوى المديرية والمحافظة لأن تفعيل هذا الجانب ينّمي الوعي بطبيعة العمل ويفتح آفاقاً واسعة في إعداد برامجها الاستثمارية السنوية وفي التعامل مع أولويات واحتياجات المناطق بصورة مدروسة ومنظمة وممنهجة بعيداً عن أغلب ما هو سائد الآن. رابعاً: وهو الأهم في اعتقادي (الاتصال والتواصل الدائم والمستمر مع المكاتب التنفيذية والإشراف والرقابة عليها بشكل مباشر وغير مباشر وتلمس همومها والعمل على حل مشاكلها خاصة فيما يتعلق باعتماد النفقات التشغيلية التي تفتقر إليها الكثير من مكاتب العمل التنفيذية المعتمدة بالمديرية برغم أن معظمها إيرادية.. لأن عدم الاهتمام بهذا الجانب أثّر بالسلب على نشاط السلطة المحلية وهي التي تقع على عاتقها مسئولية تفعيل أداء ونشاط المكاتب التنفيذية.. فعلى سبيل المثل لا الحصر: هناك مكاتب عمل تنفيذية يتطلب تفعيل أنشطتها وبصورة كبيرة جداً في مثل هذه الأيام التي تمر فيها بلادنا بأزمة متعددة الجوانب وأهمها الوعي الشعبي بماهية الولاء الوطني الحقيقي الذي يتم تشويه صورته من قبل بعض أعداء الوطن.. وأعتقد أن مكاتب “الأوقاف والتوجيه والإرشاد, التربية والتعليم, والثقافة والإعلام... إلخ” يجب أن تنال من اهتمامات السلطات المحلية الأولوية في الدعم المادي والمعنوي حتى تؤدي مهامها الوطنية في أوساط المجتمع وخاصة منه الشبابي والطلابي... إلخ عبر تفعيل الكثير من الفعاليات والأنشطة ميدانياً.. وعدم وجود مثل هذه البوادر يجعل من السلطات المحلية وكأنها في معزل عما يجري على الساحة الوطنية. وهناك الكثير من الملاحظات التي لايتسع لها المكان هنا التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار خدمةً للصالح العام للوطن والمواطنين وتجربتنا في الحكم المحلي التي يظل السؤال حولها مطروحاً على الجهات ذات الاختصاص: “سلطاتنا المحلية .. إلى أين؟” خاصة أن الكثير من التصرفات غير المسؤولة التي سادت بعض سلطاتنا المحلية في بعض المديريات أضافت إلى المعوقات التي شرحناها سلفاً معوقات جديدة فاضحة أساءت إلى نقاء التجربة وإنجازها الكبير الذي نفخر به على درب النهج الديمقراطي السليم .. وأقصد هنا تصرفات بعض مديري المديريات رؤساء المجالس المحلية الخارجة عن النظام والقانون والتي في معظمها تسيء إلى التجربة وإلى منتسبيها بشكل عام .. كأن تجد مديراً عاماً للمديرية يلغي كافة صلاحيات أمين عام المجلس والسلطة برمّتها وينفرد بكل الأعمال جاعلاً من نفسه سلطة فردية متعجرفة مستغلاً في ذلك دعماً لوجستياً من هنا أو هناك ومع تراكم تصرفاته الفردية تلك تصبح المشكلة عائقاً جديداً أمام ازدهار السلطة نفسها.. وهذا مايدعونا إلى المطالبة بتعجيل انتخابات مدراء المديريات كون التعيين يمثل أحد الأسباب في معوقات الحكم المحلي. إلى أين تسير بنا التجربة؟ هذا ما نأمل في الجهات المختصة معالجته وبصورة تسمح لسلطاتنا المحلية تتنفس الصعداء عاجلاً وتسمح لازدهار التجربة برمتها آجلاً.