بالأمس تحدثنا عن فقه الكلام والرأي التاريخيين، المسطورين في أدبيات التدوين الدينية والدنيوية معاً، وقلنا إن المسافة الفاصلة بين المسطور والمُمارس كان أمراً مشهوداً على مدى تاريخنا الخاص كعرب ومسلمين،فالمكتوب لم يكن متطابقاً مع الحاكميات الوراثية السلطانية، لكن الممارسة كانت كذلك. حدث هذا في كل مذاهب الكلام المعروفة تاريخياً، والتي تمأسست وتحولت تباعاً إلى بنية للحاكميات السلطانية الأوتوقراطية، واستمرت تلك الحالة إلى يومنا هذا، سواء في الأنظمة الملكية، أوالأنظمة الجمهورية، حتى أصبح الفارق بين النظامين فارقاً في الاسم والرسم فقط . تلك المسافة الشاسعة بين المرجعيات الكلامية المسطورة في فقه التدوين التاريخي، والممارسة الحقيقية الشاخصة على الارض عنت وتعني انتهاكاً صريحاً لما جاءت به المذاهب الاسلامية التاريخية . عندما نتوقف اليوم أمام الحاكم العربي سنجد أن ذات المتوالية تعيد إنتاج نفسها بقوة الدفع الأولى التي جعلت من الدين مطية للسلطان، ومن مسؤولية الحكم سبباً للمُلك والثراء الفاجر، وكأن لسان حال حكامنا يعيد للذاكرة صرخة امرىء القيس الخالدة عربياً وبامتياز. بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك ويحك إنما نُحاول مُلكاً أو نموت فنُعذرا وقال الشيخ محيي الدين ابن عربي متحدثاً عن محنة التاريخ العربي : أُراقب أفلاكاً وأخدم بيعةً وأحرس روضاً بالربيع منمنما وطوراً أُسمّى راعي غزلان في الفلا وحيناً أُسمّى راهباً ومنجما في هذا النص الشفيف نتوقف أمام محنة الانسان الصادر عن ثقافة التاريخ «العربسلامي»، فذلك الذي يتأمل الافلاك رمز المدى المفتوح ، والغموض الرفيع هو ذاته الذي يخدم «البيعة» ومداها الإقرار بطاعة السلطان، حتى وإن كان «ظالماً غشوماً»، وذلك حتى يتم درء «فتنة تدوم» كما قال أحد مؤصلي فقه البيعة المفتوحة: «حاكم غشوم ولا فتنة تدوم».، وقال آخر مبرراً ظلم الظالمين، مرتقياً بمثابة الظالم !.. قال : “ الظالم سيف الله في أرضه .. ينتقم به الله ، ثم ينتقم منه !!” ولا تعليق. يُمسك ابن عربي بتراتب المعنى وهويقرر بأن الناظرين إليه، إما يرونه «راعي غزلان في الفلا» وهذه اشارة للحرية بأقصى معانيها ، وإما يرونه «راهباً ومنجماً» وهذه إشارة لسلطان «دين التدوين» والميتافيزيقا غير الحميدة.