يحمل التاريخ معنى «الذات والموضوع» و «الأنا والآخر» و «الوعي والوجود». ففي كل هذه المتواليات نشتبك مع التاريخ اشتباكاً عسيراً، فلا نستطيع الانزياح إلى الأمام، بل إن الاجتهادات الكبرى التي قدمها ابن رشد وابن سيناء والفارابي والتوحيدي وابن حزم الأندلسي وجابر بن حيان والكندي وابن عربي وغيرهم .. إن كل هذه الاجتهادات مازالت متوارية وراء رماد التخلف وتدوير أسوأ تجليات الماضي، وتحييد القيم الرفيعة ذات الصلة بالإنسان وكينوته.. للعقل معانيه. إننا نستحضر أصنام الجاهلية بطريقة أكثر فداحة، فإذا كان الدهري الجاهلي يصنع صنمه متى ما أراد ويلغيه متى شاء، فإنا نصنع أصناماً بشرية، وتبقى هذه التميمة غير السحرية وغير العبقرية صفة دائمة في تاريخنا السابق واللاحق .. قال العربي الذي يُقدس الأوثان الآدمية: إن الخليفة قد أبى فإذا أبى شيئاً فإني قد أبيته وقال أحد المتطيرين المتماهين مع جلاديهم: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار ولمن أراد أن يتابع رجع صدى هذه الثقافة الخسيسة أن يتصفح مطبوعات العرب المتفانية في تصنيم الزعامات الفاشلة من الماء إلى الماء، وسنقدم هنا بضع شواهد معاصرة حتى نتبّين واقع الحال وسوء المآل : أولاً: نبدأ من الحاكمية السائدة عربياً، وتهمنا الحاكمية كثيراً لأنها رمز الإرادة وصنع المستقبل، وبيئة التفاعل الخلاق بين شركاء الماء والكلأ والتساكن، وسنرى أن البُنى السلطانية التاريخية العربية لا تعيد إنتاج الماضي فحسب، بل إنها تُعيده بعد تفصيل بائس على مقاسات الأنظمة العصيّة على التوصيف والتصنيف، وهي أنظمة امتهنت عبقرية الحاكمية التاريخية في أفُق زمانها الخاص، فيما رفضت المستقبل برمته، وهكذا نشاهد هجيناً مسخاً لحاكميات لا صلة لها بالتاريخ ونواميسه، ولا بالمستقبل وضروراته، فإذا نحن أمام بنى سلطانية استنفذت شروط تاريخها الخاص، وأخرى تدّعي الجمهورية ولا صلة لها بالفكر وآليات النظام الجمهوري، وفي كلتا الحالتين يتم توظيف الماضي الغائب من أجل حاضر مُتضبّب، ويتم استدعاء المقولات التجريدية العدمية لتوكيد ما يستحيل على التوكيد، فيحتارون في العبارة فيجزئون المجزّأ، ويُصنّفون المُصنّف ، كما قال الراحل «البردوني».