منذ وعيت على الحرف كان هو الحرف، يسكنني ويؤلف في خلجات النفوس المعاني التي تولد من رحم الامتداد اللامتناهٍ، لأحزاننا وأحلامنا، وأيامنا القادمات، درويش هو الحرف والمعنى، هذا الذي بدد الخوف من قلوب الكثيرين السائرين على درب الحرية، لن أنسى ماحييت عندما كنا نتذاكر مع صديقي وتوأم روحي الراحل/أحمد طربوش والأستاذة/أمل الباشا التي أصبحت فيما بعد زوجة له بعضاً من قصائده وكان حين ذاك لي موقف من شعر التفعيلة والنثر من جد أمي إلى مديح الظل العالي إلى أحمد العزي إلى تلة من السنديان، بصوت درويش الذي تقمص ذاكرتنا بنبراته المميزة التي يتردد صداها على مسامع الأجيال إلى ما شاء الله، بدد خوفنا عنفوان لغته وصلابة معانيه التي تألقت مع أحزان الأمة لتصبح نسيجاً واحداً، كنا نردد قوله: يادامي العينين والكفين إن الليل زائل، لا غرفة التخفيف باقية، لاولا زرد السلاسل».. وكنا نسميه النشيد الوطني وكان طربوش رحمه الله يردد قول الشعر «تفاحة مثقوبة بحرارة وجرادة مثقوبة بفراشة، حطت على كتفي وأضناها السفر.. سفر.. سفر». كان درويش حالة تعيش في وجداننا وأنساب شموساً وأقماراً مع بزوغ أشعة كل يوم جديد.. وكنت مع كل صبح أردد حينما كانت بيروت محاصرة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي قول درويش:«قمر على بعلبك ودم على بيروت ياحلوين سبك فرساً من الياقوت، قلي ومن كبك، نهرين في تابوت، ياليت لي قلبك لأموت حين أموت». هكذا علمنا درويش أن الحقيقة الباقية هي الحرية وهي المداد الأبدي السرمدي الذي يغذي الكائنات هذا هو المشهد الكبير لشاعر كبير لم يساوم، ولم يهادن، وظل يحمل في ضلوعه القلب الكبير الذي علّم العالم المقاومة والمحبة، وظلت قصائده موائد المقاومين وزادهم، إنه صوفي الحرف ودرويش المقاومة، كان يؤمن بالواحد الحق الذي يعرفه حق المعرفة، وينكر مادونه من مرتزقة الأديان. كان آخر عهدي به في صنعاء في مطلع التسعينيات بعد القاهرة عندما أحيا صباحية في المركز الثقافي، عرض لنا منها موجزاً عن أحمد العربي، الذي أخرجوه من سجنه الكبير ليحشروه في زاوية من عشه الصغير وفخخوه حتى لا يستطيع مد رجليه فيه، أو ينسرح فيه كيف يشاء ومتى يشاء. فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً.