ينظر الناس الى التصوف من زاوية ضيقة على انه ( دروشة) و تمتمات و همهمات وبدع وغيرها مما التصق بالصوفية دون النظر بعين الاعتبار إلى التراث الصوفي والفكر الصوفي وما رفد الحياة الإسلامية من تراث روحي وتربية إيمانية عالية ، وربما ساعد بعض المتصوفة الذين اخذوا قشور التصوف ومظهره دون الولوج إلى لب التصوف وحقيقته ساعد هؤلاء على طرح فكرة رديئة ومغلوطة عن التصوف ..فهل التصوف كذلك؟ لست هنا في مقام الدفاع عن الصوفية لكني في مقام إيضاح الميزة التي تميز بها التيار الصوفي اليمني بدون مغالاة او إجحاف في هذا التيار الذي دخل اليمن بشكل واضح في عهد الدولة الرسولية الذين استفاد حكامها من النفوذ الروحي والمكانة الاجتماعية للمتصوفة لتوطيد حكمهم لكن لما قويت شوكتهم( أي المتصوفة) والتف الناس حولهم أحس الفقهاء بالمتصوفة وقد نافسوهم في المكانة الدينية والاجتماعية فما كان من الفقهاء الا المواجهة وقد اتحد حنبلهم وزيديهم وأشهروا الأفكار في وجوه الصوفية لمحاربتها وتتبع انحرافاتها وإبدائها للعامة قبل الخاصة كهف التصوف إذا كنا نعرف المتصوفة على أنهم العاكفون على العبادة والمنقطعون إلى الله والمعرضون عن زخرف الدنيا وزينتها والزاهدون فيما يقبل الناس عليه من متع الدنيا فهل إنقطاعهم هذا انقطاع سلوكي أم فكري؟! لا شك أن المتصوفة الأوائل كانت صوفيتهم ردة فعل لمظاهر الترف التي عمت الأمة منذ أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري فكان انعزالهم في خلواتهم زهدا خالصا لأن التصوف في تلك المرحلة لم يطعّم بالأفكار الفلسفية فكان سلوكا محضا دون فكر لن بعد دخول الفلسفة عليه صنعت من التصوف فكرا له أصول ومفاهيم غمضت على العامة ولم يفهمها الا الخاصة من الرعيل الاول الذين حملوا هذا الفكر وعبّروا عنه في كتبهم وأشعارهم كابن عربي والحلاج وغيرهما.. فمن هذا الكهف الغامض خرجت لآلىء وأصداف ولكن بالمقابل - ونتيجة للشطحات التي أبداها غلاة المتصوفة - خرجت أيضا من نفس الكهف تماسيح وحيتان وعلاوة على ذلك فالمتصوفة لم يتخذوا العقل طريقا لمعرفة الأسرار الإلهية بل العشق الإلهي فالمعرفة كالمحبة منحة ربانية وطريقها الإشراق والكشف وليس العقل كل هذا جعل من المتصوفة أو طائفة منهم في منأى عن مجتمعاتهم فكرا وسلوكا .. لكن ماذا عن متصوفة اليمن؟! النموذج الرائع لم يظهر التصوف في اليمن إلا متأخرا في القرن السابع الهجري في عهد الدولة الرسولية – كما أسلفنا – لكن رجال هذا التصوف كان لهم الأثر الجيد في إبراز هوية التصوف من بين سائر الطوائف الأخرى في المجتمع ويأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ احمد بن علوان والذي يرى أن التصوف علم ضروري إلى جانب الشريعة وان التصوف يكشف ما لم يستطع كشفه (الفقه) فهو يقول :- العلم علمان علم يستضاء به علم الحدود وعلم يكشف الحجبا. وقد شارك الشيخ في الحياة العامة مشاركة فاعلة آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وكان صوته قويا في مواجهة حكام بني رسول في عهده وله قصائد وعظية للولاة يحثهم فيها على العدل كالقصيدة التي بعثها إلى الملك عمر بن علي بن رسول – مؤسس الدولة الرسولية – ومنها :- أيام عمرك أيام لها ثمن عدل يعم وفعل كله حسن قف بين نفسك والدنيا على مهل والناس أنت ودنيا عمرك الزمن هذه تهامة لا دينار عندهم ولحج أبين بل صنعاء بل عدن فما ذنوب مساكين الجبال وهم جيران بيتك في الأحلاف والسكن فانظر إليهم فعين الله ناظرة هم الأمانة والسلطان مؤتمن ونموذج آخر لهذا التصوف الخلاّق والملتحم بمجتمعه دون انعزال انه الفقيه علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي المتوفى سنة 1418 م صاحب الطريقة الشاذلية في التصوف والذي استوطن المخا وإليه ينسب اكتشاف البن وتأسيس وتنظيم تجارته وإعادة بناء ميناء المخا وإنشاء أقدم بيوت القهوة (المقاهي) والمتاجر في مدينة المخا والتي على غرارها أنشئت بيوت القهوة في أوروبا وأقدمها في مرسيليا وباريس ولندن، ولا ننسى الشيخ الحكيمي المتوفى سنة 1954م والذي قدّم نموذجا رائعا للجهاد والنضال ضد الاستعمار الانجليزي وللشيخ مناظرات ومحاورات في دفع الشبهات حول الإسلام مازال صداها يتردد حتى اليوم . هذه لمحة مختصرة عن متصوفينا العظام والذين قدموا نموذجا رائعا للتصوف الحقيقي والخلاّق فهم منعزلون بخلواتهم الفكرية لكنهم ليسوا في أبراج عالية منعزلين عن مجتمعاتهم بل هم أول المبادرين للدفاع عن تلك المجتمعات..