الطلاق هو الحل البغيض، والداء الناجع، والسم المداوي الذي يصبح شراً لابد منه حين يُغلق الخير أبوابه، وتشد الألفة إزارها، ويقطع الحب أوصاله بين من كانوا واحداً جسداً وروحاً، وأصبحوا زرافات تسير عبر واحات الصحراء في أسراب عطشى لا يطفئ ظمأ قلوبها مُزن، ولا يغرق فضول شفاهها طوفان. لكن سفينة القدر لابد أن تجد المرسى في النهاية، وليس بيد الإنسان إلا أن يطأ المرافئ ويعيش في كنف الزوايا والمنعطفات.. الطلاق مجرد (جراش) لجوارح الجسد، إجازة إجبارية لشغف الذاكرة، طريقة فريدة ومميزة لتكبيل رغبة التوازي مع خط سير الشريك الذي قرر فجأة أن ينعطف محدثاً هزة عنيفة في صدر الآخر دون أن تقوده مخيلته إلى حجم تلك الخسائر وفظاعة تلك الشظايا التي مزقت توأمه المنفصل من الوريد إلى الوريد. أنه الصفعة المهينة التي تمسح عن الوجه تضاريس الحب والوله وتنحت على إثرها أخاديد الحرمان والألم، الطلاق قنبلة الدمار الشامل التي تنسف ما أنبتته يد الود والفضل بين الزوجين، لكن من المؤسف أن الجميع ينسى ذلك الفضل ويتجاهل ذلك الود الذي كان ولا يقف عند هذا المشهد المحزن بل يتجاوز شعور النسيان والتجاهل إلى الأذى والتباغض ليتعامل مع ذلك الشريك وكأنه عدو لدود وخصم شرس. ويزداد الأمر سوءاً حين تكون تلك العلاقة قد انتهت بوجود شركاء صغار يجدون أنفسهم فجأة بين يدي الحيرة في حضرة قاضٍ ظالم أو محامٍ محترف للاحتيال أو ضمن عائلة متشابكة الألسن في أحسن الأحوال وعلى الرصيف بمعية الحياة وقسوتها في أسوأ الأحوال وأكثرها مرارة. الطلاق سوط الانكسار الذي يجرح النفس، وعصا الذل التي تشرخ الروح، ولهول وقعه على النفس - خاصة لدى المرأة - أسماه الله أبغض الحلال، ويهتز له عرش الرحمن، ولفداحة آُثاره وخطورتها أفرد الله له سورة كاملة في القرآن الكريم، بالإضافة إلى آيات أخرى تفصيلية ودقيقة تشرح أحكامه في سورة البقرة؛ إذ لا يتوقف أمر الطلاق على زوجين استحالت بينهما العشرة والمعاشرة، بل إن هناك قواعد تخص الطلاق كحكم تشريعي وحقوق يجب أن يحصل عليها كلا الطرفين وأطفال يجب أن يأخذوا نصيبهم الوافي من الرعاية والاهتمام ونفسيات متعبة قد تعود إلى صوابها حين تطبق تلك القواعد والتشريعات بدقة؛ إذ إن النفس قد تصبح شرراً يتطاير هنا وهناك حين يجد صاحبها نفسه وحيداً بعد أن كان له شريك، فريداً بعد أن كان له أبناء، شريداً بعد أن ألف السكينة والسكن في بيت الزوجية. ليس من السهل وصف ذلك الشعور العميق بالضياع والانكسار حين تحتشد الذكريات وتتجمهر المشاهد في ذاكرة تضج بالمواقف الحلوة والمرة والأكثر حميمية وقرباً من أفراد صغار وكبار عاشوا جميعاً في حنايا قلب واحد، لك أن تتخيل كيف تنقلب موازين الحياة رأساً على عقب؟ كيف تصبح تلك الساعات الطويلة من البوح صمتاً؟ وكيف تصير الفكاهات حزناً معتقاً؟ وكيف تتحول الابتسامات الخجولة والنظرات الفاترة إلى صرخات مدوية ودموع تكاد تغرق أصحابها حتى الموت؟ لك أن تتخيل الفرق بين الليلة الأولى التي يلتقي فيها الزوجان تحت سقف واحد، والليلة الأخيرة التي يذهب كل منهما في طريق تحت سقف السماء التي كتبت فصول حياتنا منذ الأزل، مسافات طويلة ومساحات شاسعة.. كيف تصبح الأقواس آفاقاً وتصبح اللحظة مدى، ويأتي المجهول من حيث لا نحتسب؟!. الطلاق مجرد كلمات، نعم مثله مثل الزواج، لكن هناك فرقاً كبيراً بين كلمة تحييك وكلمة تميتك، إنما هي إرادة السماء، ولولا إيماننا بذلك لرحلت عقولنا كما ترحل أسراب الطيور، ولسقطت قلوبنا كما تسقط حبات المطر، لكنها الحياة التي علمتنا أن لا شيء يبقى إلى الأبد. حاولت أصير أكبر من الموج وانكسرت!! حاولت أطير وأسكن شموخك ما وصلت!! حاولت أهاجر وأنسى حبك ما قدرت !! حاولت أكون مثلك حجراً.. وما عرفت !! ماعرفت !!